في ذكرى وفاته.. القارئ العالم الشيخ محمد عبدالوهاب الطنطاوي.. صوت حمل القرآن فاحتضنه الملايين


في مثل هذا اليوم، السادس والعشرين من يوليو، تمر ذكرى رحيل واحد من أعمدة تلاوة القرآن الكريم في مصر والعالم الإسلامي، الشيخ محمد عبدالوهاب الطنطاوي، الذي اقترنت سيرته بحب القرآن، وارتبط اسمه في ذاكرة المستمعين بالصوت الخاشع والأداء المتقن والحضور الآسر.
وُلد الشيخ الطنطاوي في 3 أكتوبر 1947 بقرية النسيمية، مركز المنصورة بمحافظة الدقهلية، ونشأ في بيئة محبة للقرآن، إذ وهبه والده ـ الحاج عبدالوهاب الطنطاوي ـ منذ ولادته لحفظ كتاب الله، تيمّنًا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فحفظ القرآن الكريم كاملاً قبل أن يبلغ العاشرة من عمره.
بدايات مبكرة وصوت واعد
منذ نعومة أظافره، ظهرت على الشيخ الطنطاوي علامات النبوغ، فالتحق بالتعليم الأزهري مبكرًا، وبعد أن حصل على الشهادة الابتدائية عام 1959، التحق بالمعهد الديني في المنصورة، وهناك بدأت ملامح قارئ متميز تتشكل. كان صوته الجهوري العذب يشق أرجاء المعهد في طابور الصباح، ويشد المارة من الشارع ليستمعوا إليه في خشوع.
شجّعه أساتذته وزملاؤه، ووجّهه أحد مشايخه إلى أن يكرّس صوته وحفظه لتلاوة القرآن الكريم دون غيره من فنون الإنشاد، فاستجاب الشيخ الشاب للنصيحة، وواصل رحلته العلمية حتى التحق بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، حيث درس الفلسفة والعقيدة، ليجمع بين عمق العلم وجمال التلاوة.
صوت من ذهب يشق طريقه إلى القمة
في فترة السبعينيات، بدأ الشيخ الطنطاوي رحلته في مجال الدعوة كواعظ بأوقاف الدقهلية، ولكنه لم يستطع مقاومة نداء القرآن، فاستقال من عمله ليتفرغ لتلاوته، وسرعان ما ذاع صيته في ربوع الوجه البحري. حضر السهرات القرآنية الكبرى، وقرأ إلى جانب عمالقة التلاوة مثل الشيخ الطبلاوي، والشيخ شعبان الصياد، والشيخ محمد بدر حسين، وغيرهم، وكان منافسًا قويًا رغم أنه لم يكن بعد قد التحق بالإذاعة.
لقّبه جمهوره بـ”القارئ العالم” و”كروان الدقهلية”، وتميز بأداء يجمع بين الالتزام الكامل بأحكام التجويد ودفء الصوت وروحانية الأداء، مما جعله يحظى بمكانة خاصة في قلوب المستمعين.
الالتحاق بالإذاعة.. وتألق عالمي
التحق الشيخ الطنطاوي بإذاعة وسط الدلتا عام 1985، وبعد عام فقط تم اعتماده قارئًا في الإذاعة المصرية، ليبدأ مرحلة جديدة من التألق. تميز بسرعة انتشاره، فدخلت تلاواته كل بيت، وتسابقت المحافل الكبرى إلى دعوته، وسافر ممثلًا لمصر إلى دول العالم العربي والإسلامي والغربي، من الولايات المتحدة وكندا إلى اليابان والبرازيل والنمسا.
وكان يرى في كل رحلة فرصة لتمثيل الإسلام والقرآن بأفضل صورة، يقول عن إحدى رحلاته إلى كينيا: “قال لي أحدهم بعد أن استمع لقراءة وخطبة الجمعة: إنها نعمة أن تكون قارئًا وعالمًا، ومنذ تلك اللحظة أدركت أن القارئ سفير لدينه وأمته”.
إرث خالد
لم يكن الشيخ الطنطاوي مجرد قارئ صوتي، بل كان مدرسة في الأداء، يجمع بين الوقار، وحسن الخلق، والعلم، والتواضع، والالتزام، فشهد له معظم قراء مصر ـ إذاعيين وغير إذاعيين ـ بعلو الكعب في التلاوة، وقدرته الفائقة على الجمع بين جمال الصوت وصحة الأحكام.
عاش حياته بين أسرته ومصحفه، قليل الظهور في الإعلام، كثير العطاء في ميادين التلاوة، حتى رحل عن دنيانا في 26 يوليو، تاركًا خلفه ميراثًا من التلاوات الخاشعة التي تلامس الأرواح، وسيرة طيبة لقارئ عشق القرآن فعشقه الناس.
رحم الله الشيخ محمد عبدالوهاب الطنطاوي، وجزاه عن كتاب الله خير الجزاء.