الوثيقة
تراثنا

رحلة مع كتاب تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين

تاريخ التراث العربي- فؤاد سزكين
تاريخ التراث العربي- فؤاد سزكين

يعد كتاب تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين واحدًا من المراجع الرئيسة في الاطلاع على تراثنا العربي بكل علومه وليس بالأدب وحده، فهو يأخذك في رحلة طويلة طويلة عبر التاريخ تتعرف خلالها إلى ما تركه الأقدمون من علوم ومعارف كانت لها الريادة في مجالات متعددة ويحكي المؤلف تلك الرحلة الممتعة في مقدمته فيقول:
كنت قد عقدت العزم منذ خمسة عشر عاما؛ على عمل ملحق بمخطوطات مكتبات إستنبول للكتاب القيم «تاريخ الأدب العربى» لكارل بروكلمان،
c. brockelmann geschichte der arabischen litterarur
وكان هذا هو الحافز الذى دفعنى إلى القيام بعمل هذا الكتاب. ولم يكن يخطر ببالى عند البدء فى هذا العمل أنها مغامرة أقدمت عليها، ولا ريب أن هذا الشعور انتاب أيضا من سبقنى فى هذا المضمار. ولكن عند ما يرى الباحث أبعاد عمله، ويدرك حقيقة الصعوبات التى تعترض طريقه، فإن ارتباطه بموضوعه يصبح وثيقا، ولا سيما إذا كانت المادة التى جمعها غزيرة، وهو- لذلك- لا يستطيع التراجع عنه.

لقد توافرت عوامل كان من الممكن أن تدفعنى إلى الخوف والإحجام عن تنفيذ هذا العمل؛ فالآراء حول عمل من سبقنى فى هذا المضمار متفاوتة، والحكم عليه قاس، والنقد الذى ناله لاذع، والأخطاء التى وقع فيها عديدة، وهذه كلها عوامل كان من الممكن أن تجعل الذين يقبلون على مثل هذا العمل يخافون ويحجمون. ولكنى- مع ذلك- قد اتخذت منه، ومن حياته القاسية- التى كرس منها أكثر من خمسين عاما لكتابه- مثلا يحتذى، وحافزا جعلنى لا أتخلى عن تحقيق هذا الأمل، إفادة للمشتغلين بالدراسات العربية، ودفعا للبحث فى هذا الميدان خطوة إلى الأمام.

إن النقد الموجه إلى كتاب «بروكلمان» - الذى اشتهر فيما بعد- ربما يكون صحيحا فى جملته، ولكن أيجوز للمرء أن ينظر من وجهة نظر القارئ فقط، وينسى الصعوبات التى كان على المؤلف أن يذللها ويتغلب عليها؟ فقد كان عليه أن يجمع كثيرا من المواد، وينتقى منها، ثم يتعرف عليها وينسقها ويبوبها، وغالبا ما وقف مكتوف اليدين، عاجزا عن تنفيذه
للمشروع الذى وضعه، وفق الخطة المناسبة، وقد ظهرت له واضحة أثناء عمله، ولذلك كان عليه (فى ضوئها) أن يحدد المواد التى سيعتمد عليها.

كانت الخطة أولا ان يوضع ملحق لكتاب «بروكلمان» على أساس مخطوطات إستنبول، ولكن بعد مدة من الزمن قرر الأستاذ «رشر - o.rescher «وهو حجة فى تاريخ التراث العربى- أن يشترك فى هذا العمل، وأن يقدم للبحث والدراسة كل المادة التى جمعها منذ زمن بعيد، وعلى الأخص أثناء عمله بالمكتبة السليمانية (باستنبول). وعند ما قررت بعد ذلك- بحوالى ستة أشهر- أننى سوف لا أكتفى بالخطة السابقة، وأننى سأجمع كل ما يمكن جمعه من المواد: من الفهارس، والدراسات التى ظهرت بعد كتاب «بروكلمان»، وكذلك من دراساتى الخاصة للكتب المطبوعة، ومجموعات المخطوطات، تنازل لى الأستاذ «رشر» عن هذه المواد التى لا تقدر، ثم صرف النظر نهائيا عن المشاركة فى العمل، فالعمل ضخم غير واضح المسار والنهاية، والأيام مضت بالأستاذ «رشر» إلى عمر متقدم.

والخطط تتغير دائما: فالخطة الأخيرة التى ظهر عليها الكتاب بالصورة التى بين أيدينا قررت فقط منذ عام ونصف. وعند ما انتهيت من الجزءين الأول والثانى وأعددتهما للطبع، ظهر أنهما فى الحقيقة عمل جديد مستقل عن كتاب «بروكلمان»، ففى هذين الجزءين درست كل المواد المتاحة وحققتها، وراجعت كل ما ذكره «بروكلمان» وأضفت له معلومات جديدة مكملة مثل: تاريخ المخطوطات، وعدد أوراقها أو صفحاتها، كذلك عدد أجزائها.

ولقد ذكرت أولا المخطوطات التى قدمها «بروكلمان»، ثم أتبعتها بالمخطوطات الجديدة التى عثرت عليها، وقد كان هدفى أن أجعل هذا الكتاب مستقلا تماما عن كتاب بروكلمان، ولكنى لم أستطع تحقيق ذلك دائما، فلم أستطع المضى فى عرضى لكتب أحد المؤلفين دون الارتباط «ببروكلمان». على أننا إذا أردنا تنظيما جديدا كاملا للمواد المجموعة، فإن ذلك يستغرق زمنا طويلا جدا، الأمر الذى لا أسمح لنفسى به، فالقارئ مرتقب منتظر، كما أن محاولة الوصول إلى طريقة مثلى لتصنيف جديد- وهيهات الوصول إليها- تجعلنا نخشى على المواد الغزيرة الضخمة للأجزاء الأخرى من الكتاب، حيث لا يمكن تقديمها وعرضها؛ فالعمر قصير، والعمل طويل.
ود بعض المتخصصين مزج المخطوطات التى قدمتها فى هذا الكتاب؛ ذلك لأننى اتبعت طريقة فصل المخطوطات المعروفة عن المخطوطات التى عثرت عليها، وأضيفت حديثا، بواسطة علامة مميزة هى+، وشاهد تفضيلهم، أنه لا يصح- على سبيل المثال- الفصل بين مخطوطة فى فهرست وهى نفسها فى فهرست آخر لنفس المكتبة، كما أنه لا يصح فى هذه الحالة أن تذكر المكتبة مرتين. ومع ذلك فقد اتبعت طريقتى السابقة التى اخترتها؛ لأنها توصل القارئ إلى الهدف، وهو التعرف بسرعة على المخطوطات الجديدة التى رأت النور فى السنوات الأخيرة.

وفيما يتعلق بمنهج وشكل هذا المجلد- الذى أعتبره فى الحقيقة محاولة أولى- فلا أرى واجبا على الالتزام بهما فى بقية مجلدات الكتاب. أما التغييرات الضرورية التى لم تظهر ضرورتها إلا بعد أن قدم الكتاب للمطبعة، فسأقوم بها بدون تأخير فى المجلد الثانى، وسيساعد على ذلك ما يبديه القراء كثيرا من ملاحظات ونقد.

والمجلد الثانى- وكنت قد أعددته للطبع قبل هذا المجلد- يتضمن الموضوعات الآتية:

الشعر، والنثر، واللغة، والأدب، وذلك فى المرحلة الزمنية التى عالجت فيها موضوعات المجلد الأول.

أما المجلد الثالث فعليه أن يشمل الموضوعات التالية: الترجمة، والفلسفة، والعلوم الطبيعية، ولم أكتب من هذا المجلد- إلى الآن- إلا قدرا قليلا حول أولية العلوم الطبيعية العربية فى العصر الأموى- وفقا للخطة القديمة- ولكنى أرى الآن فى ضوء تصورى الجديد للموضوع، وجوب دراسة الترجمة إلى اللغة العربية، باعتبارها مصدرا للعلوم عند العرب لمرحلة زمنية واسعة، وينبغى أن تأخذ الأبحاث الجديدة، والاكتشافات الحديثة مكانها فى هذه الدراسة، مع الاستفادة من الأعمال الجليلة التى قام بها «شتاينشنايدر steinschneider «فى هذا المجال. ولا نستطيع- الآن- القول: بأن تلك الموضوعات العلمية المشار إليها، قد جمعت إلى بدء القرن الثامن الهجرى، حتى يستطيع القارئ تتبع تطور فرع من هذه العلوم فى مرحلة زمنية أطول، والواقع أن القول الفصل فى هذا الموضوع مرتبط بكمية المواد العلمية، والطريقة التى تعالج بها الموضوعات.

وسوف يفتقد القارئ فى هذا المجلد فهرست المصطلحات، ولكن سوف نلحقه بنهاية
المجلد الثانى، وأما المجلد الثالث فله فهرسه الخاص به. أما الكتب المجهولة المؤلف والتاريخ، فسوف نذكرها فى فهرست فى نهاية الكتاب كله.

وقد كان من الممكن أن يخرج هذا الكتاب فى صورة أحسن وأكمل، لو أتيحت لى فرصة الحصول على مساعدات مالية، فجل رحلاتى العديدة فى أنحاء أوروبا، وإلى شمال أفريقيا، وكذلك إلى الشرق الأدنى والأوسط، حتى إلى الهند، أنفقت عليها من مالى الخاص، وكذلك ما تكلفته للعديد ممن ساعدونى، وما دفعته ثمنا للمراجع والفهارس، وتصوير المخطوطات، واستخراج المقالات من المجلات العلمية. وقبل سنوات رصدت هيئة «اليونسكو» مبلغا لتساعد فى إخراج كتاب «بروكلمان» إخراجا جديدا، ولكن اللجنة المكونة لهذا الغرض، أرجأت البت فى هذا الموضوع حتى تبحث ما إذا كان عملى هذا يمكن أن تشمله هذه المساعدة أم لا، ولكن الموضوع كان يؤجل ويؤجل. ولعل السبب الحقيقى لهذا التأجيل، أنهم رأوا وجوب اشتراك مجموعة من العلماء فى عمل كهذا، يقوم كل واحد منهم ببحث مجال بعينه من مجالات المخطوطات العربية، ولا جدال أن إنسانا واحدا لا يستطيع أن يمتلك زمام كل مجالات التراث العربى، ولكنى رأيت بنفسى تعذر إمكانية اشتراك مجموعة من العلماء. وفوق ذلك فإن اقتناعى يزداد كل يوم، بأن دراسة التراث العربى لم تتقدم بعد تقدما كافيا. يتيح لنا الاتفاق على زمن نشأة فروع العلوم العربية المختلفة، التى تبحث فى هذا الكتاب، وهذا الاتفاق هو الشرط الأساسى للقيام بعمل جماعى كهذا، وربما يطول انتظارنا حتى يمكن تحقيق مثل هذا العمل الجماعى. فلا بد- أولا- من تكرار جهود عدد من العلماء، يبحث كل واحد منهم- على حدة- المواد الجديدة، ويجمع الدراسات الحديثة.

وبدلا من الاستمرار فى سرد الصعوبات، أود أولا أن أتحدث سعيدا شاكرا عن المساعدات الحقيقية التى قدمت لى: فإذا كنت قد استطعت أن أستمر فى عملى لإخراج هذا الكتاب، فإن الفضل الأول فى ذلك يرجع إلى الأستاذ «هارتنر prof.hartner «الأستاذ بجامعة فرانكفورت، فقد بادر إلى مساعدتى- فأمن وجودى عند ما اضطررت- لأسباب سياسية- إلى الخروج من معهدى، ثم من وطنى سنة ١٩٦٠ م. وكان الأستاذ «هارتنر» هو الذى هيأ لى أن أتفرغ سنوات عديدة للعمل فى معهده فى هذا الكتاب، وكان بجوارى كلما اعترضتنى عقبة. ولا تكفى هنا مجرد كلمات تقال عما أفادنى به- وهو العالم المتخصص فى تاريخ العلوم الطبيعية- فقد كان لى نعم السند، وبخاصة فيما يتعلق بآرائه كمتخصص فى علوم
العرب، كان على أن أنتظر طويلا حتى يجئ يوم، أعبر فيه بهذه السطور عن شكرى له، وأهدى إليه هذا المجلد سعيدا مغتبطا.

وأقدم كذلك إلى أستاذى المبجل الأستاذ «ريتر prof.ritter «جزيل شكرى، وخالص ثنائى؛ لتقديمه لى كثيرا من المواد العلمية، وكان نقده وحكمه على بعض مقدمات الأبواب المختلفة للعلوم، حافزا لى ومشجعا على العمل. وأود أن أقدم كذلك خالص الشكر إلى صديقى الحبيب الأستاذ «شرم schram «من «توبنجن»، فقد تناقشنا فى قضايا التراث العربى، وكانت آراؤه حوافز جديدة دفعتنى إلى الاستمرار، وفوق ذلك فقد اطلع على بعض مقدمات هذا المجلد، وجزءا كبيرا من المجلد الثانى، وكتب عليهما ملاحظات ذات بال.

هذا وقد بذل السيد «فيدر f.c.wieder «مدير دار «بريل» للنشر e.j.brill جهدا كبيرا من أجل هذا الكتاب، فلم يتأثر بالأصوات التى كانت تحذره من أن فردا واحدا لا يستطيع القيام بمثل هذا العمل، ولم يثقل على، وترك لى حرية التصرف، وتكبد فوق تكاليف الطباعة مئونة مساعدتى ماليا عند القيام بكتابة هذا الكتاب، وكانت مساعدة السيد «فولفهارت هينريش - w olfhartheinrisch «الطالب بالدراسات العليا بكلية الفلسفة- مجدية وهامة، فقد قرأ أصول المجلدين: الأول والثانى من الألف إلى الياء، ولفت نظرى بواسع معرفته، وحدة معارضاته، إلى كثير من الأخطاء، وإلى اطراد المصطلحات، وفوق ذلك فإنه قد صحح التجارب الأولى والثانية للطباعة بنفس العناية والاهتمام. ودون مساعدته، كان الكتاب سيقدم إلى القارئ غير كامل، وبه كثير من الأخطاء، ولا يسعنى هنا إلا أن أقدم شكرى الخالص للسيد «هينريش». ولزاما على هنا أن أشكر أيضا زميلى السيد الدكتور «زالتسر w.saltzer «الذى قرأ المقدمات قبل الطباعة، ثم صححها بعدها، وكتب عليها ملاحظات مفيدة.

فإذا ما اتجهت بالشكر إلى الذين عملوا معى فى إستنبول: فأخص السيد الدكتور صالح توج، salihtug والسادة: رمضان شيشين، ramzansesen ويوسف زيا خفاجى، yusuf ziyakavak ومحمد أزهان، mehmet وعلى دريال. alidaryal وأشكر كذلك
السيد الدكتور عزت حسن مدير المكتبة الظاهرية بدمشق، وكذلك السيد فؤاد السيد (•) بدار الكتب المصرية بالقاهرة، فقد قدم لى هؤلاء جميعا- عن طيب خاطر- مساعدات كبيرة.

وإنه لتقصير كبير، إذا لم أذكر ما قامت به زوجتى من مجهود، فكل سطر، وكل كلمة من هذا الكتاب، تشهد بما قدمته من جلد وأفكار، فالفهرست قامت به وحدها، وفى الحقيقة أنه لولا مساعدتها ما كنت أستطيع تحقيق. هذا العمل، فإليها أقدم شكرى العميق.، فؤاد سزگين فرانكفورت/ على نهرالماين فى ٢٧ ديسمبر سنة ١٩٦٦ معهد تاريخ العلوم الطبيعية.

تاريخ التراث العربي علوم العرب فؤاد سزكين المخطوطات تراثنا الوثيقة