مالك السعيد المحامي يكتب.. استخدام بصمة وجه وأصابع المتوفى لفتح هاتفه المحمول بين غياب التشريع وضرورات الواقع الرقمي


مالك السعيد المحامي يكتب :استخدام بصمة وجه وأصابع المتوفى لفتح هاتفه المحمول بين غياب التشريع وضرورات الواقع الرقمي
في ظل التحول الرقمي الذي جعل الهاتف المحمول صندوق أسرار شخصيًّا يحوي أدق تفاصيل الحياة من بيانات صحية ومالية ووثائق ووصايا مؤجلة، تتفاقم معضلة قانونية وأخلاقية عند وفاة صاحبه: هل يحق للورثة فتح هذا الصندوق؟ وهل يملك أحدهم أو جهة رسمية استخدام بصمة وجه أو يد المتوفى للوصول إلى بياناته دون إذن قانوني صريح؟ أمام غياب تشريعات واضحة ومواكبة، تتقاطع في هذا الملف المعقد ثلاثة أطراف: الشريعة، والقانون، والتكنولوجيا، في معركة مفتوحة بين الخصوصية وضرورات الواقع، بين كرامة المتوفى وحقوق الورثة
الفراغ التشريعي الحالي جعل من الهواتف بعد الوفاة موضوعًا شائكًا لا تحكمه قواعد صارمة، وفتحها باستخدام بصمة المتوفى بات خاضعًا للاجتهادات الشخصية والانتهاكات المقنّعة بالحاجة، في ظل عدم وجود نص قانوني مباشر يحسم اعتبار الهاتف ضمن التركة أو يصون حرمة ما يحويه. هذا ما دفع بعض الممارسين لاستخدام تقنيات فتح الهاتف بالبصمة لوقت محدود بعد الوفاة، ما يفتح الباب أمام الاستغلال بسوء نية أو حتى بحسن نية، ويثير تساؤلات متزايدة حول التكييف القانوني لهذه التصرفات
فقهيًا، تتباين الآراء بشأن اعتبار الهاتف تركة قابلة للتصرف، ففريق يرى جواز فتحه إن وُجدت وصية أو أمانة أو دين موثّق، وآخر يرفض ذلك تمامًا دون إذن شرعي معتبر، معتبرًا الهاتف وعاء أسرار لا يجوز المساس به. ومع ذلك، هناك من يرى أن الضرورات قد تبيح بعض المحظورات، لكن وفق ضوابط شرعية صارمة، خاصة عند ارتباط الهاتف بحقوق الآخرين أو أموالهم. وفي المقابل، تعتبر أغلب الأنظمة القانونية أن استخدام بصمة المتوفى أو وجهه دون إذن رسمي يُعد انتهاكًا صريحًا للخصوصية، مع غياب تشريعات واضحة تنظم التصرف في البيانات أو الأجهزة بعد الوفاة
القانون لا يواكب حتى الآن التحولات التقنية للتركة الرقمية، ويفرض قيودًا على فتح الهاتف دون إذن رسمي، وقد يُكيف الأمر كجريمة معلوماتية، حتى إن تم بنية حسنة، نظرًا لاحتمال كشف أسرار تخص الغير، أو ضياع بيانات حساسة، أو ارتكاب جرائم رقمية كاملة الأركان. ما يعمق الفجوة بين الواقع والمأمول، ويؤكد الحاجة إلى تشريعات رقمية تحسم هذه الإشكاليات في إطار يوازن بين الحقوق والكرامة
وفي محاولة لسد هذه الفجوة، يمكن اللجوء إلى بدائل تقنية وقانونية مؤقتة، مثل استخدام كلمة المرور إن كانت معلومة وتوثيق عملية الدخول قانونيًا، أو التواصل مع الشركات المصنّعة مثل Apple وGoogle عبر خدمات مخصصة كـ Digital Legacy التي تتيح استرداد البيانات بشروط، منها تقديم وثائق قانونية وإثبات الوفاة. كذلك، يمكن استخدام برامج الاستعادة من النسخ السحابية أو من أجهزة أخرى مرتبطة بنفس الحساب، وفي الحالات الاستثنائية كوجود شبهة جنائية، يمكن الحصول على إذن من النيابة العامة. وفي حال تعذر ذلك، قد يُلجأ لتفكيك الجهاز واستخراج بطاقة الذاكرة أو الشريحة بشرط عدم تشفيرها وتحت إشراف قانوني مختص
الموقف الفقهي والقانوني لاستخدام بصمات المتوفي فى دول العالم
الموقف الفقهي والقانوني يزداد تعقيدًا مع استخدام السمات البيومترية كالبصمة والوجه بعد الوفاة، حيث تُعد من عناصر الجسد الذي له حرمة بعد الموت. غالبية الآراء الفقهية ترفض استخدامها دون إذن شرعي أو قضائي، بينما ترى تيارات أخرى أن استخراج وصية أو مال عالق أو إثبات حق قد يبرر هذا الفعل بضوابط. قانونيًا، تختلف المواقف بين الدول:
في دول الخليج، لا توجد تشريعات واضحة أو فتاوى تنظم هذه الحالات، لكن القضاء يملك صلاحيات استثنائية تسمح بالوصول إلى البيانات الرقمية عند الضرورة، وفق تقدير كل حالة، استنادًا إلى قوانين مثل الجرائم الإلكترونية في الإمارات والسعودية. وتُراعى "المصلحة العليا" كتنفيذ وصايا أو تسهيل الميراث دون المساس بكرامة المتوفى
في أوروبا، يخضع الموضوع لقواعد حماية البيانات العامة GDPR، ويُعد استخدام البصمة بعد الوفاة استمرارًا لحق الخصوصية، ولا يتم إلا بأمر قضائي أو بموافقة مسبقة من المتوفى. أما في الولايات المتحدة، فتختلف القوانين حسب الولاية، وغالبًا ما يُسمح بالوصول القضائي إلى الأجهزة الرقمية للمتوفى لأغراض التصفية أو التحقيق، مع إشراك الأسرة أو الوصي القانوني. وقد شهدت بعض الحالات تدخل المحاكم لإجبار شركات تقنية على فتح أجهزة متوفين
أما في مصر، فالوضع أكثر ضبابية. لا ينص القانون المصري مباشرة على استخدام بصمة المتوفى، ويتم الاعتماد على القواعد العامة في الميراث والوصايا وقانون الإجراءات الجنائية. ويُرجح أن يُكيف الفقه القانوني هذه الحالات كوسائل غير تقليدية للوصول إلى التركة، ويُجيزها عند الضرورة بإذن قضائي واضح، شريطة احترام كرامة المتوفى ومبادئ الخصوصية المنصوص عليها في الدستور
كما يُقترح تنظيم العلاقة مع شركات التكنولوجيا عبر قنوات حكومية لضمان حقوق الورثة دون انتهاك خصوصية أطراف ثالثة. وقد يشمل الحل كذلك حظر الاطلاع على بيانات الآخرين داخل جهاز المتوفى إلا بإذن قضائي خاص، وإصدار لوائح جزئية تنظم التعامل مع البيانات الشخصية بعد الوفاة في إطار أوسع للتشريع الرقمي
الحلول العاجلة الآنية:
في ظل غياب تشريعات واضحة تنظم التعامل مع الهواتف والبيانات الرقمية بعد وفاة أصحابها، تبرز الحاجة إلى حلول عاجلة عملية تُراعي الضرورات الواقعية وتحمي خصوصية المتوفى. يمكن البدء بتعميم إجراءات مؤقتة عبر الجهات المختصة تُجيز فتح هاتف المتوفى أو الوصول إلى حساباته الرقمية بإذن قضائي مسبب في حالات الضرورة مثل إثبات وصية أو كشف أمانات أو تصفية حقوق مالية. كما يُمكن التنسيق مع شركات التكنولوجيا لتفعيل خدمات مثل "الوصية الرقمية" أو السماح لجهات موثوقة مثل النيابة أو المحاكم بتقديم طلبات استرداد بيانات وفق وثائق رسمية. وينبغي أن تصدر الجهات القضائية والنيابية منشورات تنظيمية داخلية تُحدد المسؤوليات وتمنع الاجتهادات الفردية التي قد تُعرّض الأطراف للمساءلة أو تنتهك حرمة المتوفى وحقوق الورثة
الحلول والتشريعات المستقبلية:
الحلول المستقبلية تبدأ بضرورة سن تشريع جديد يعرّف التركة الرقمية ويحدد آلية التصرف فيها، ويقنن استخدام البيانات البيومترية بعد الوفاة ضمن ضوابط واضحة. ويمكن أن يشمل ذلك إنشاء سجل رقمي للوصايا يتيح لصاحب الحساب تحديد من له الحق في دخول أجهزته، أو تطوير آليات لفتح الهواتف بوجود لجان متخصصة وخبراء قانونيين وتقنيين، مع توثيق رسمي لكافة الخطوات.
وعلى المدى المتوسط والبعيد، تصبح الحاجة إلى تشريع شامل للتركة الرقمية أمرًا ملحًّا، يضع تعريفًا قانونيًا دقيقًا لما يُعد من الأموال والموجودات الرقمية، ويُقر آليات واضحة للتصرف فيها بعد الوفاة. يجب أن يتضمن هذا التشريع بنودًا خاصة بتنظيم استخدام السمات البيومترية للمتوفى، مثل بصمة الوجه أو الإصبع، ويُحدد الجهات المخوّلة بالوصول إلى بياناته وشروط ذلك. كما يمكن إنشاء سجل إلكتروني للوصايا الرقمية ضمن منظومة وزارة العدل أو هيئة حكومية مستقلة، يُتيح للمواطنين تحديد من يُصرّح لهم بفتح أجهزتهم بعد الوفاة. ويجب أن يُرافق هذا الإطار التشريعي لوائح فنية وتنسيق دولي مع الشركات المالكة للتطبيقات والأجهزة لضمان احترام الخصوصية وتنفيذ الإرادة الرقمية للمتوفى، بما يُحقق التوازن بين حرمة الفرد ومصالح الورثة ويُغلق الباب أمام الفوضى القانونية والأخلاقية.
الخلاصة.. إن استخدام بصمة المتوفى لفتح هاتفه أو حساباته الشخصية ليس مجرد إجراء فني، بل قضية قانونية وإنسانية معقدة تتقاطع فيها التكنولوجيا مع الفقه والقانون والخصوصية. والحل يبدأ بإرساء قواعد تشريعية دقيقة تحمي كرامة الأموات وحقوق الأحياء على السواء، وتضع نهاية للفوضى القانونية والأخلاقية التي تُحيط بالمشهد الرقمي بعد الوفاة.