الوثيقة
ثقافة وفنون

ظاهرة الحزن والكآبة ...قراءة في ديوان(عواء مصحح اللغة)

غلاف كتاب عواء مصحح اللغة
غلاف كتاب عواء مصحح اللغة

يشكل الحزن ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجار الشعرية الحديثة ، وهي ظاهرة ذات شيوع مؤثر وتجليات واضحة لدى العديد من شعراء الجيل الحالي، ولكن بنسب متفاوتة تختلف بين شاعر وآخر، ولها العديد من الأسباب منها ما همو مرتبط بالواقع العربي ومشكلاته التي نعاصرها ويعاني منها شعراء الحداثة.
والحزن يشكل سمة تضغى على العديد من القصائد،وتنتشر في أعمال العديد من أعلام الحداثة. وقارئ الشعر الحديث يلحظ أن الظاهرة ليست وقفا على شاعر بعينه، كما أنها ليست محصورة في مجموعة شعرية دون سواها كما يقول الدكتور أحمد سيف الدين في بحث له نشر في مجلة جامعة البعث ولكني أضيف أن الظاهرة قد تبرز عند شاعر دون الآخر فيما تيرز ظاهرة أخرى عند شاعر آخر وقد يظهر الحزن في مجموعة شعرية أو قصيدة معينة بطريقة ملحوظة تفوق مجموعة أخرى أو قصائد مغايرة للشاعر ذاته.
وظاهرة الحزن في الشعر الحديث ليست ظاهرة عبثية وإنما لها دوافعها وطرق تجلياتها التي تميز شاعر عن غيره، بل ولها أسبابها ومبرراتها الذاتية والموضوعية التي تكمن وراء غلبة طابع الحزن والتشاؤم على العوالم النفسية لكثير من شعراء الشعر الحديث، وهو ما يؤكد بوضوع ذيوع ظاهرة الحزن في معظم النتاج الشعري
من هؤلاء الشعراء البارزين الشاعر عبد الرحمن مقلد الذي يعد صوتا شعريا قويا بين شعراء الجيل الحالي ليس في مصر فحسب بل في الوطن العربي كله لأنه حين يكتب الشعر تتجلى في أعمال العديد من الظواهر الشعرية وقضايا الحداثة ، فضلا عن لغته القوية وألفاظه العذبة، بل إن أعماله تمتلئ بتجليات الحداثة التي تدعو إلى التأمل والدراسة .
يعتبر مقلد أحد أبرز الأصوات الشعرية الشابة، وهو أحد أبناء محافظة دمياط، ولد عام 1986م، وقد تخرج في كلية دار العلوم، حصل على عدة جوائز رفيعة، منها : جائزة الدولة التشجيعية 2018عن ديوانه "مساكين يعملون في البحر"، وجائزة هيئة قصور الثقافة عن ديوانه " نشيد الحفاظ على البطء"، وجائزة المركز الثقافي المصري بباريس، وجائزة المجلس الأعلى للثقافة، كما ترجمت بعض أعماله إلى الفرنسية والأمازيغية، وقد صدر له ديوان وهو آخر أعماله يحمل اسم "عواء مصحح اللغة" عن دار نشر (منشورات الربيع).
(عواء مصحح اللغة ) يفوح براحة الحزن التي ميزت الشاعر في هذا العمل، فمنذ أن تلتقط عيناك اسم الديوان تشعر بكمية من الحزن والكآبة التي يعبر عنها، وحين تشرع في قراءته ستتضح لك كمية من الحزن والهم التي تصل إلى خواطرك ومشاعرك إلى أن تفرغ من قراءة آخر سطر شعري فيه
إن (عواء مقلد) تعد تعبيرا عن هم داخلي يحمله الشاعر بين ضلوعه وفي عقله لم ينتج فحسب من أسباب ودوافع ذاتية حملنا معه في رحلة التعبير عنها، بل هناك مبررات وأسباب موضوعية وتجارب عامة أخذنا إليها المؤلف، فمقل في هذا العمل حين يحزن يحزن العالم كله من حوله، معبرا عن الهم الذي يحمله مجتعنا المصري والعربي والعالمي، فهو يعبر عن هموم الإنسانية كلها، بل إنه أحيانا يحزن لحزن الأشياء من حوله، وذلك لا يدل إلا على عمق إحساس الشاعر، ورهافة حسه الشعري، وبعد نظره وتأملاته الخاصة ورؤية إلى العالم الدقيق بمنظور مختلف.
فشاعرنا صاحب (العواء) حين يتألم " يحول ألمه إلى فلسفة في الحياة وإلى تفكير واسع فيما يلاحقها من نعيم وبؤس وسعادة وشقاء. فالألم عند هذا الفريق لا يتحول إلى نفسه والحديث عن أوجاعه، وإنما يتحول إلى الحياة البشرية كلها وما ترتطم به من صخور الشر والظلم الصارخ" كما وصف الدكتور شوقي ضيف في كتابه دراسات الشعر العربي المعاصر. فمقلد يكتب قصائده بدمائه.

مقلد يحارب دمار العالم ببراءة ماريا
يرفض شاعرنا الحرب ويكره الدمار الذي يحط بالعالم حوله، بل ويتمنى أن ينشر السلام والبراءة, كأن تتحول الحرب إلى حرب بسيطة كتلك التي تقوم بين لعب الأطفال فهي نقية لا خسارة فيها، وهذا حين يتساءل في قصيدة (لعب) فيقول:
ماذا يا ماريا
لو أصبحت رئيسة هذا الكون
اخترت الدمية قائدة
والسمكة مسئولة قوات البحرية
والأرجوز رئيس الحرس
وغنى الضفدع مارشال الحرب
فهو يراهن ببراءة ماريا التي لو انتشرت عدواها في العالم وصارت الحياة أبسط لتخلى العالم عن دماره وحروبه، فنجده يواجه قسوة العالم ودماره ببراءة وصفاء الطفولة.
وفي قصيدة أخرى بعنوان ( مع ماريا ) يرفض مقلد الخروج إلى الشوارع المزدحمة والصاخبة حيث يحمل عبء مقابلة الناس والتعامل معهم في مشهد يعبر عن حمل ثقيل بداخله يجعله يخلد إلى العزلة مع ماريا، يتمنى وهو مريض ويجلس معها أن تدوم فرحته بالبقاء مع طفلته الحلوة:
ماذا يا طفلتي الحلوة
لو داوم هذا الفرح
وبقيت قويا ومعافى
في البيت
طوال الأيام المقبلة
لم أخرج لتقابلني النظرات القاسية
ولا العربات المسرعة
ومازال في هذه القصيدة يجد ضالته بين لعب ماريا الممنتعشة بالبراءة والصفاء، يشكو العالم ويلقي حزنه بين أيدي اللعب البريئة حين يقول:
أحضن دميتك
وأشكوك لها
وأنوح
وأنصب فخا
أسقط كالصياد الخائب فيه
ولا أتعلم في المرة تلو المرة
ينقل الشاعر صورة الحرب المدمرة إلى حروبه الخاصة التي تملؤها البساطة ويرضى بخسارته المتكررة فهي حرب لا دماء فيها ولا دمار، فنجد مقاطعه التي تحاول فيها إقامة حرب خاصة بين الدمي والأراجيز تفوح بما يحمله من هم العالم وما يحمله شعره من حزن
صورة الموت ونظرية للتخلص من الحزن
اللافت للنظر أن (عواء مصحح اللغة) يشير إلى صورة الموت في مواضع عديدة ومتفرقة، فشاعرنا على ما يحمله من حزن يرى الموت سببا كافيا للتعبير عن آلام العالم وأحزانه تارة ويراه مخلصا من الأحزان تارة فهو حين وضع عوانا لقصيدة (حديث مصحح اللغة إلى ابنته) وضع تحته عنوانا آخر هو (حفار قبور) ويقول فيها :
خذي بيدي
كأني أصعد حتى الشرفة
حتى أدرك أني خلف الباب
هنا في البيت
وأن الخارج لا يتبعني
والإرسال توقف
والموتى رحلوا عني
وكأني حفار قبور
وتمتد صورة الموت عنده في القصيدة نفسها حين يصرخ حتى يسمعه الموتى في إشارة إلى أنه لا أمل أن يسمع صريخه الأحياء فيأمل في إسماع الموتى :
وأنا أعوي
كي يسمعني من يتسابق نحو الموت
وكي ينتبهوا قبل سقوط البيت
كما أنه يشعر بالأموات وكأنه يعيش معهم في عالم خاص بعيد عنا، فيحس بخطوهم ويحدثهم، يحمل هم قتلهم، كأنهم يطلبون منه البحث عن ثأرهم وهو يتفقد الأخبار على الشاشة أمامه فيتساءل :
كيف لهذا الشاعر أن ينتبه
لخطو يديه
وتلك دماء الموتى تطغى فوق الشاشة
تحمل مجرى الأحرف
تحمل من بصمات القتلة
ما لا يمحوه دليل
لكني كنت أرقم تلك الهوة بين القاتل والمقتول
كأني حفار قبور
نجده في قصيدة (مواساة العازف الإيراني ناصر علي) يصور الحزن بالمرض الذي يؤدي إلى موته، فهكذا يحزن الشعراء والعازفون:
قل شيئا للنعسان على كتفي
ينتظر الموت
سبعة أيام لم يترك مرقده
فهو يواسي العازف ناصر علي بطل الفيلم الفرنسي (دجاج مع الخوخ) بعد أن حطمت زوجته آلة كمانه فانكسرت روحه مشيرا إلى أن الحزن الذي يعيشه الفنان كفيل بأن يصل به إلى الموت وذلك دليل على حزن الشاعر الغالب على مشاعره حين ينهي القصيدة قائلا:
ينتظر ملاكا
يحمله صوت شيراز
يموت هناك
صريع الثلج
رهين الموسيقى
ومازال صوت الموت يطارد الحروف والكلمات عند مقلد حتى أنه يخضع الأحياء إلى الشعور بحزنه فيحضروا جنازات الذين رحلوا كما في قصيدة (الجنود):
ويبقى الوصول لهم دائما مستحيلا
بعيدون
خلف السهول
وإن حضروا الجنازات
عطشى
ولا يشربون
وفي قصيدة (العمة تزورني في الليل ) يذكر عمته التي ماتت ورحلت ثم تأتيه وهي حزينة فيسألها:
أليس لديك أنيس
أأغضبك الميتون القدامى
أم أنك لا تشتهين الخلود
ويرى أن الموت راحة أحيانا ومخلصا من الهم والحزن حين يقول لعمته :
ألم يبتسم الحظ بعد
وأنت احتملت
المزيد من القسوات
المزيد من البخس
وارتحت بالموت
أليس كذلك
إن مقلد حين يحزن ويصرخ تحزن الأشياء حوله، حتى اللغة الذي يصوبها ويصحح أخطاءها لم تسلم من حزنه فيجعل الحروف حوله حزينة وذلك جلي في قصيدة (حديث مصحح اللغة لابنته) حيث يقول:
وأعوي
وأنا أبصر ما يتطاير من أشلاء
والدبابة تنهش جسد المار
وكنت أرتب للتنوين الدور الأمثل
كنت أزيل دموع النون وأضع النقطة
كنت أغير تكشيرة حرف الهاء
فنجده حين يحزن لما يراه وما يقرؤه من الأخبار عن الحروب والقتل ودهس الدبابات لأجساد الناس تحزن مع الحروف فلا ينتظم التنوين وتظهر للنون دموع كما تكشر الهاء لتشارك الشاعر حزنه.
مشاركة الأشياء في الحزن القاتل
كعادته في (العواء) يشرك العالم معه في الحزن ويستبكي الحيوانات حوله فيشعر القارئ بمشهد النحيب القاسي الذي تحزن فيه كل عناصر الطبيعة فنجد في قصيدة (صراخ الرجل ونباح الكلب) حزينا على حال المستشفى العام فيصرخ صرخة في وجه العالم ، يئن بأنين البسطاء والفقراء لكنه يجعل الكل حزينا حتى الكلب البلدي يشاركه حزنه على البسطاء وصحتهم :
اليوم صرخت أنا
وأنت نبحت
شكلنا عصبية سطو
حتى تمتد مشاركة الكلب البلدي له في حزنه في أنه صار متهما مثلا في قضية واحدة فيقول:
قالوا ذلك في أوراق الشرطة
وقضينا نصف نهار في القسم
أنا والكلب
أقنعنا
الضابط وأمين الشرطة
أن الأعصاب انفلتت
والمستشفى العام مدين
وحين تصل إلى قصيدة (رقص.. رقص)التي كتبها إلى الفنان الليبي الراحل على الوكواك، وهي مستوحاة من مجسم فني لذلك الفنان تجده يستنطق الأشياء حوله فليست الحيوانات فقط التي تشاركه الحزن بل إن الشاعر يبث حزنه في لوحة الوكواك، حيث قال:
تدق
على الدقات يهيج الدم
ورقصة سالومي كبرى تبدأ
والرقصة فوق الأطلال الخربة
بين الجثث المتآكلة
على شرف الغربان السود
وشيخ الحالة يبصق فوق النار
ليندلع الطوفان الدموي المحموم
وبلا جدال فإن شاعرنا عندما يحزن يقرأ الحزن في عيون الأشياء حوله، بل ينشر فيها ما يحمله من كآبة وسوداوية حتى اللوحات الفنية.
براءة ماريا وزيارة العمة
وكأي إنسان يبحث مقلد عن من يحب ليشكو له ويرتاح إلى حديثه، وهو على طول الخط في هذا الديوان يجد في براءة ماريا وصفائها براحا للحكي والشكوى فيقول لها في قصيدة (يا ماريا):
أبوك تناهشه صرخات البرية
وقد روعته الحوادث
والسنوات الأخيرة
والحرب والطائرات
وقصف البيوت على أهلها
يجد مقلد السلوى في الحديث إلى ماريا فهو حين يحزن وحين يغضب وحين يكون متعبا يلجأ إليها وها هو ذا حين يشعر بالأرق يقول لها :
اطلبي لي السلام من الرب
حتى أنام
ولكن لشاعرنا حبيبة أخرى قد افتقدها، فهو يستحضر صورتها وروحها التي تأتيه كل مساء وتزوره في الليل، فحين نقرأ قصيدة (العمة تزورني في الليل) نجد مبررا واضحا من مبررات حزنه، وهو فقدان العمة لذلك تزوره روحها في الليل وهي محملة بالحزن :
تقول لي العمة المستجيرة بي
وهي تتلاقى بمنديلها الدمعات
وتذهب مفطورة القلب
لا يتبقى سوى حسرة
يحاول مقلد أن يحمل الهم والعبء عن عمته الحزينة وأن يخفف عنها فيطمئنها على الجميع ويطلب منها أن ترتاح، وأنه كفيل بحمل الحزن عن الجميع، وكيف لا وهو يحمل هم العالم كله في هذا الديوان؟!
اطمئني :
الجميع بخير
ولا تجزعي
إن تضاءل رزق العيال
أسباب موضوعية للحزن
الجميل أن الشاعر في هذا الديوان يصلب روحه افتداء لقلوب البسطاء، فنجده في كل سطر شعري من الديوان يحمل هموم الطيبين والفقراء وتكاليف العيش، وصعوبة السعي وراء لقمة العيش، والحصول على ثمن الدواء، وغيرها من القضايا الاجتماعية التي لا يمكن حصرها هنا لذلك سنكتفي بأمثلة فهو يقول في قصيدة (حظك حلو ):
استزيدي من صفائك هذا الليل
يا أم كي تجدي دواء ارتفاع الضغط وحدك
لا أحد سيأتيك من سفر
ليدفع الشر
أو يوقف العطار
إن خالفت يسراهفي كيلة الكمون
ثم يحمل حزنا عميقا بالسعي وراء لقمة العيش ومفارقة الزوجة والأولاد لوقت طويل حيث قال في قصيدة (ذئبان مجروحة):
من علمنا القسوة
لنغادر عند الفجر
ونترك تلك الأجساد الفارعة
المترعة بخمر النشوة
نتركها غير مبالين
ونركض كاذئبان المجروحة
نحرث في الطرق اللامنتهية
في الحقيقة إن المتأمل لشعر عبد الرحمن مقلد يجده حافلا بالظواهر الشعرية والحداثية، ولكن ظاهرة الحزن كانت تفوح من بين حروفه وكلماته في هذا العمل، ولو تتبعنا مواضع الحزن في الديوان فإننا لا تكفينا ربما بضع مجلدات، لكن ما ذكرناه كان على سبيل المثال لا الحصر.

عواء مصحح اللغة الحزن والكآبة الشعر الوثيقة

ثقافة وفنون