الوثيقة
تحقيقات وتقارير

المومس الفاضلة.. قراءة أدبية فلسفية في المسرحية الأزمة 

مسرحية المومس الفاضلة
مسرحية المومس الفاضلة

أثار الإعلان عن عرض مسرحية "المومس الفاضلة" لـ "جان بول سارتر"، حالة كبيرة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، وكان الهجوم على المسرحة منصبًا على العنوان، وكذا اسم الممثلة التي ستلعب دول البطلة "ليزي" في المسرحية، نظرًا لارتباط اسم الممثلة بأدوار سابقة للإغراء؛ الأمر الذي أثار إشكالية كبيرة وهي أن المسرحية ستحمل مشاهد إباحية الأمر الذي أثار الجمهور.

المسرحية الأزمة

جاء الإعلان عن المسرحية أثناء مناقشات عروض المسرح الدولي للشباب، في شرم الشيخ، وذكرت الفنانة سميحة أيوب- وهي إحدى رائدات المسرح العربي- أن المسرحية مثلت نقلة فنية في تاريخها، وعرضت على الفنانة إلهام شاهين أن تلعب دور البطلة "ليزي" في المسرحية.
ومن هنا بدأت الأزمة في إعلان إلهام شاهين عن المسرحية، والذي أثار حالة كبيرة من الرفض والجدل على مواقع التواصل الاجتماعي للدرجة التي أوصلت المشكلة إلى البرلمان، وتقدم النائب أيمن محسب عضو مجلس النواب، بطلب إحاطة للمستشار الدكتور حنفي جبالي، رئيس مجلس النواب، موجّهًا لرئيس مجلس الوزراء، ووزيرة الثقافة، بشأن المسرحية التي تعتزم شاهين تقديمها على خشبة المسرح، مؤكدًا: "طريقة التناول والمعالجة للمسرحية التي كتبها المفكر الفرنسي جان بول سارتر، قبل أكثر من 75 عامًا، غير مناسبة للمجتمع المصري، بل ومن الممكن أن يطلق عليها فن إباحي".

فلسفة المسرحية

لم يُعرف عن مؤلف المسرحية جان بول سارتر، الدعوة للإباحية، وليس له مؤلفات من هذا النوع، رغم أنه أحد كبار الفلاسفة الوجوديين الذين يتبنون الوجودية الملحدة التي تنكر وجود الله، بل ويعتبرونه- تعالى الله عما يصفون- عاجزًا عن حل مشكلات الإنسان، ويعتبرون أن الإنسان هو خالق نفسه!.
ولعلك لا تجد شيئا من هذه الإباحية الفجة في مسرحياته الأخرى ومن أشهرها "اللامخرج"، و"المنتصرون"، و"الذباب"، وجميعها يركز فيها على الذات الإنسانية ومشاكل الوجود الإنساني، من حياة وموت وحرية ومسؤولية، بعيدًا عن الفلسفات السابقة المهتمة بالميتافيزيقا والمنطق ونظرية المعرفة.
والوجودية تيار فلسفي ظهر في القرن العشرين، يركز على قيمة الإنسان كفرد، ويعزز أهمية وجوده، خاصة بعد الدمار الذي شهده العالم أثناء الحرب العالمية الأولى والتي خلفت آلاف القتلى، الأمر الذي جعل عددًا من مفكري الغرب يبحثون عن فلسفة تعيد للإنسان أهميته، وتعزز قيمه وأهمية وجوده، وظهر ذلك من خلال كتاباتهم الأدبية والمسرحية، وأطلق على هذا المذهب عدة أسماء، منها: فلسفة العدم، والفلسفة الانحلالية، وفلسفة التفرد.

تلميع أفكار سارتر

وتركز المسرحية على تقديم الجانب الإنساني من منظور فلسفة سارتر الإلحادية التي تتيح لكل فرد الحرية في حياته، يفعل ما يشاء، متحررًا من كل القيود الدينية والاجتماعية.
ولعل اختيار سارتر لشخصية البغي لتكون محورًا لهذه المسرحية، محاولة من سارتر لتلميع مذهبه، من خلال نفي الفكرة الشائعة عنه بأنه لا يهتم بالأخلاق، وهي الفكرة الأساسية التي تدور حولها المسرحية من خلال الصراع النفسي الذي تعيشه البطلة "ليزي"، منذ اللحظة الأولى، من خلال محاولة إشباع حاجتها الغريزية كأنثى، وحاجتها إلى رجل في حياتها، وبين حياتها كمهمشة في مجتمع أرستقراطي متطرف لا يعترف بالمهمشين، واستغلال جسدها في التكسب وهي غير راضية عن هذا السلوك الذي تعده مجرد وسيلة للكسب، ولو ظهر بديل غيره لاتجهت إليه.

يركز سارتر منذ البداية على تغليب الجانب الأخلاقي، من خلال الظرف الذي تعرضت له "ليزي"، ورفض كل الإغراءات المادية مقابل التوقيع على شهادة الزور التي، يلح كل أفراد المدينة التي تعيش فيها على توقيعها، والتي شارك فيها الثري الأبيض "فريد"، ومعه اثنين من الضباط البيض إضافة إلى السيناتور.

وبدت فكرة إنكار الدين التي تبناها سارتر وأصحاب مذهبه الفلسفي الإلحادي من خلال إنكار البطلة على الثري الأبيض "فريد"، بمجرد أن ينطق أمامها أي ألفاظ تذكرها بالدين، منها حينما يصفها بأنها شيطان لأنها تمارس البغاء، رغم مواقعته لها ووصفه للسرير الموجود بحجرتها بأنها يفوح بالخطيئة، فترد عليه مستنكرة: "هل أنت قسيس؟... تتحدث كما يتحدث الإنجيل. كلا أنت لست قسيسًا، أنت أنظف منهم بكثير".

أحداث المسرحية

لا تحمل المسرحية أي شيء من الإباحية، وليس في النص الذي كتبه سارتر ما يوحي بذلك على الإطلاق، فهي تدور في إطار صراع درامي بين المهمشين في المجتمع الأمريكي الأرستقراطي الذي يفوح بالعنصرية، ضد السود، ويعتبرهم أشياء لا قيمة لها، وأن وجودهم جاء بمحض الصدفة، وأن التخلص منهم واجب اجتماعي، كما يكشف أيضًا مدى عنصرية المجتمع الأبيض مع المهمشين من البيض أيضًا كشخصية البطلة "ليزي"، التي يرى الجميع أنها لا بد أن تكون مجرد أداة لتنفيذ رغبات الأثرياء وأصحاب النفوذ، دون الاعتراف بحقها، رغم أنها من أصحاب البشرة البيضاء.
كما تظهر أيضا عنصرية "ليزي" نفسها في تاففها من الزنجي، باعتبار أن هذا النوع لا يمكن أن يكون من زبائنها نظرًا لبشرته السوداء، لكنها في الوقت نفسه تُغلب الجانب الأخلاقي في تعاملها معه من خلال حرصها على تبرئته وإيوائه.
المسرحية تدور أحداثها حول تعرض اثنين من الزنوج لملاحقات في القطار الذي كانت تستقله ليزي لهجوم من ابن أحد الأثرياء، أدت إلى مقتل أحدهما وهروب الآخر، بزعم أنهما حاولا اغتصاب ليزي، التي أنكرت الواقعة وبينت أن ابن الأثرياء هو الذي تحرش بها.
ألقي القبض علي الأبيض قاتل الزنجي وتبين أن والده من ذوي النفوذ في المدينة، وتمكن أحد أقاربه "فريد" من الوصول إلى منزلها لمساومتها لتغيير شهادتها من أجل عدم معاقبة القاتل، فترفض ليزي، ومن ثم يستدعي اثنين من الشرطة لتهديدها ومساومتها ثم يأتي السيناتور وبأسلوب ملتو، يتمكن من الحصول على توقيع ليز على شهادة مزيفة لتبرئة القاتل.
ويلجأ الزنجي الهارب رفيق المقتول إلى منزل ليزي للاختباء به، وبالفعل تحميه ليزي وتعده بعدم تسليمه إلى البيض الذين يلاحقونه، بهدف الفتك به وقتله، وفي النهاية تصرخ ليزي معلنة أنها تعرضت لخدعة من السيناتور بالتوقيع على الشهادة الزور.

في العموم، تكشف المسرحية مساوئ المجتمع الأبيض الأرستقراطي بشكل كبير، وتمثل رفضًا لسلوك للمجتمع الأمريكي العنصري.
المثير أن المسرحية عرضت في يوليو 2018 في المملكة المغربية، باسم (الفاضلة) فقط بإسقاط لفظ (المومس)، في إطار عروض المركز الثقافي سلا الجديدة، ومر عنوان المسرحية بهذه الصورة دون إحداث أية أزمة، لكن يبدو أن الأمور لدينا تسير نحو الإثارة والدعاية المجانية.

تحقيقات وتقارير