الوثيقة
الأخبار

في ذكرى نصر أكتوبر: سقوط أسطورة الفانتوم للأبد 

سقوط الفانتوم
سقوط الفانتوم

في اليوم السابع من القتال ، الثاني عشر من أكتوبر ، أرسل الملحق العسكري المصري في دمشق وكان يعرف بضابط الاتصال العقيد محمد بسيوني سفير مصر في إسرائيل لاحقا أرسل برقية إلى مركز القيادة الرئيسي في مصر رقم 10 مفادها (أسقط اليوم المقدم طيار محمد فكري الجندي طائرة فانتوم ) ، وكانت الفانتوم آنذاك من أقوى وأحدث الطائرات في الترسانة الجوية الأمريكية بما لها من قدرة عالية على الطيران ، وبما تحمله من تسليح فهي مستودع ذخيرة متنوعة ، ولم تكن تملكها في المنطقة كلها غير إسرائيل !.. وهذه كانت إحدى مفاجآت انتصار 6 أكتوبر 73 حين نجح الطيار المصري بطائرته ( الميج 17 ) الروسي الصنع ،الأقل تسليحا ومدى أن يسقط الفانتوم فخر الصناعة العسكرية الأمريكية ، ما يؤكد أن الفرد المقاتل هو الأساس وليس المعدة .
تلك القصة بحذافيرها حكاها لي لواء طيار فكري الجندي الذي ترقى في المناصب إلى رتبة مساعد رئيس أركان القوات الجوية ومدير معهد دراسات الحرب الجوية ، وظهرت منذ أيام قلائل في كتابي ( سقوط الفانتوم ) الصادر بمناسبة انتصارات أكتوبر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب فما هي تفاصيل تلك المعجزة العسكرية التي قلبت موازيين الحرب ، وكيف وقعت ، وكيف ضرب الطيارون المصريون أروع الأمثلة في تاريخ العسكرية الحديثة وأبهروا العالم ؟ .. هذا ما نتذكره اليوم بعد 52 سنة على انتصارات أكتوبر التي نعيش على ذكراها لليوم باعتبارها من أيام المجد والفخار والوطنية لمصرنا الحبيبة ، وهذا ما سرده بالتفصيل الكاتب الصحفي صلاح البيلي في أحدث كتاب صدر في مصر بمناسبة الاحتفال بذكرى نصر أكتوبر المجيد .
يقول لواء طيار فكري الجندي في الكتاب : تخرجت في الكلية الجوية سنة 1960 برتبة ملازم طيار وتوليت أكثر من مهمة وقيادة في المطارات والقواعد الجوية حتى توليت رئيس فرع التخطيط بشعبة التدريب الجوي ، وكنت مديرا لمعهد دراسات الحرب الجوية ، ومساعدا لرئيس أركان القوات الجوية ، وشاركت في حرب اليمن وحرب الاستنزاف وحرب التحرير الكبرى في 6 أكتوبر سنة 1973 وكنت وقتها قائدا لسرب الطيران المصري على جبهة الجولان السورية في ( قاعدة المزه ) برتبة مقدم طيار .
وتبدأ قصة سرب المقاتلات القاذفة المصري على الجولان سنة 1969 باسم ( صقر ) ، وضم 12 طيارا إضافة إلى الاحتياطي والمعدات الخاصة بالتجهيز الأرضي وعربات الجيب وخزانات الوقود ، وفي اليوم السابع للقتال ، الموافق 12 أكتوبر صدرت الأوامر للسرب المصري بتجهيز رف للإقلاع فورا لتقديم المعاونة الجوية للقوات البرية ، وضرب أهداف العدو في المنطقة التي تقع جنوب غرب مزرعة ( بيت جن ) ، وما إن وصلنا لهدفنا حتى سمعت نداء من مركز عمليات اللواء الجوي ( مارد ) يطلب مني ( مغامر ) التوجه إلى مهمة أخرى ، وهي فوق ( المنطقة 17 ) التي تشمل ( دير صدنايا ) وما حوله ، وهي إحدى مناطق الانتظار الجوي التي يحتلها تشكيل جوي باستمرار ، وارتفعت بالتشكيل بما يحقق لنا كشف أي طائرات معادية تقترب من المنطقة ويوفر لمركز القيادة رؤيتنا على شاشة الرادار، واستطاع مركز القيادة أن يلاحظنا وبدأ الاتصال معنا ، وأعطانا أول تحذير بوجود طائرات معادية في المنطقة .
وفجأة اكتشفت طائرتين من طائرات الفانتوم الإسرائيلي في وضع تشكيل القتال المفتوح ، وكانتا قادمتين من اتجاه ( الزبداني ) ، وبسرعة البرق طلبت من مركز قيادة القوات الجوية السورية أن يكلف تشكيلا من تشكيلات (الميج 21 ) باعتراض الفانتوم الإسرائيلي ، ولما لم يحدث أدركت أننا بطائرات ( الميج 17 ) الأقل تسليحا ومدى وسرعة قدرنا أن نواجه الفانتوم الأحدث في الترسانة الأمريكية ، والأقوى والأسرع كما انها مستودع ذخيرة كامل ، فاقتربنا من الطائرتين الفانتوم ،وهنا ظهرت لنا طائرتين فانتوم خلفهما ، ناديت على رقم 3 في التشكيل أن ينفصل يمينا ، فانفصل ( بكر ) ، وزاد اقترابي حتى صرت على مسافة 1000 متر من الطائرات المعادية ، ولما كان وضعي بالنسبة إليها مثاليا للتنشين أطلقت النار عليها ، وأطلقت نيران مدافع طائرتي الثلاثة على الطائرة التي أمامي ، والتي تظهر في جهاز التنشين ، ومع ذلك سقطت طلقاتي خلف الطائرة مباشرة ، وكان السبب في ذلك تسرعي في إطلاق النار وشعوري أننا لن نخرج أحياء من هذا الاشتباك الجوي غير المتكافيء ، وحين نظرت في ( بيرسكوب الطائرة ) رأيت طائرة فانتوم أخرى تقترب مني وتاخذ وضع الهجوم ضدي ، فقمت بعمل دوران حاد ابتعدت به عن مسارها ، واقتربت أكثر من الطائرة التي أمامي ، حتى صارت المسافة بيني وبينها لا تتجاوز 300 متر ، وفي هذه اللحظة تحسن وضع طائرات الفانتوم المعادية التي أمامي واستدارت إلى اليسار ففتحت كل نيراني نحوها وبغزارة ، فأصبتها وتأكدت من سقوطها .
ولم أهنأ بفرحة النصر إذ رأيت الطائرة المعادية الأخرى التي تتبعني تقترب مني ، وفي وضع يؤهلها لضربي وإسقاطي ، فقمت بعمل دوران حاد جدا ، فوجدت نفسي خلفها وهي أمامي ، وبيننا مسافة قصيرة تسمح لي بضربها فأطلقت نيراني لتحقيق إصابة من غير شك وفجأة اختفت الطائرة المعادية من أمامي ، ونظرت خلفي فإذا بطائرة معادية أخرى تستعد لإطلاق النيران علي ، فقمت بعمل دوران حاد لليسار ، فأصبحت خلف الفانتوم المعادية ، ووجدت نفسي في وضع أقرب وأسهل في اصطيادها ، وكانت فرصتي لإسقاط طائرة فانتوم ثانية ، أطلقت نيران مدافعي الثلاثة نحوها فلم تستجب .. يا الله !
لقد استهلكت كل الذخيرة الموجودة معي في الهجومين السابقين ، وكدت أصاب بالجنون ، إذ كيف أكون في هذا الوضع المناسب جدا لإسقاط عدوي بينما أنا مشلول ؟!
استمرت المعركة الجوية بين وضع طائرة خلفي تريد تدميري وأخرى أمامي أطاردها حتى اختفت الطائرات المعادية ، وأصبحت السماء طاهرة من طائرات العدو ، ناديت على بقية الطيارين المشتركين معي في التشكيل ( بكر وسيف ويحيى ) وكانوا جميعا سالمين وبخير ، ونجح ( يحيى ) في إسقاط طائرة فانتوم معادية مثلي ، كما قاتل ( بكر وسيف ) قتالا شرسا تميز بالشجاعة الفائقة والفدائية في قتال أربع طائرات فانتوم معادية .
وصورت كاميرات الطائرات المصرية كل تفاصيل المعركة الجوية ، فبعد نزع الأفلام وتحميضها وطباعتها ظهر كل شيء لدرجة أن الطائرة الأخرى المعادية ظهر أنها أصيبت ، وهنأ الملازم طيار ( حسام ) قائده : ( مبروك يا افندم .. سيادتك وقعت طائرتين ) .
ويتذكر اللواء طيار فكري الجندي يوم حضر دورة أركان حرب سنة 1974 وكانت تضم كل أبطال حرب أكتوبر الذين لم يحضروها من قبل ، وهي بمثابة ( ماجستير في العلوم العسكرية ) ، وفي إحدى محاضرات التكنيك الجوي وكان المحاضر هو اللواء طيار أركان حرب مدحت عوض ، أن قال بالحرف الواحد في المحاضرة : ( يسعدنا أن بيننا الآن المقدم طيار فكري الجندي ، فقد كنت في في مركز القيادة رقم 10 يوم 12 أكتوبر 1973 حينما وصلت برقية من دمشق فحواها أنه نجح في إسقاط الفانتوم الإسرائيلي بطائرته الميج 17 الروسي ، وكان المرسل ملحقنا العسكري في دمشق آنذاك عقيد محمد بسيوني ، وتسلم الرئيس السادات البرقية بنفسه وقرأها ، وسأل عن هذا الطيار قائد سلاح الطيران حسني مبارك فأثنى عليه وأشاد به .
الدروس المستفادة
وعن الدروس المستفادة آنذاك من هذه المعركة الجوية قال لواء طيار فكري الجندي في كتاب ( سقوط الفانتوم ) : أولا لم تعد الطائرة الفانتوم هي ( البعبع المخيف ) أو الطائرة المهيبة التي يخشاها كل الطيارين من قبل ، بل أصبح الطيارون يسعون للاشتباك معها ولقائها وبذلك سقطت أسطورة الفانتوم للأبد وهي أحدث ما أنتجته أمريكا من سلاح جوي آنذاك . ثانيا ، ضرب القائد المصري القدوة لبقية الطيارين فهو الذي يقود التشكيل بنفسه مضحيا بروحه ضاربا المثل لبقية الطيارين في الفدائية والشجاعة والاصرار على النصر ، وهذا ما حدث في كل معركة جوية أو برية ، كان القائد المصري يسبق ضباطه وجنوده في ارض وسماء المعركة .
ثالثا ، استهلاك كل الذخيرة ليس معناه انتهاء المعركة ، فالطيار الماهر والقائد في الميدان هو القادر على المناورة بكل أنواعها للخروج من المأزق والعودة سالما .
رابعا ، على الطيار أو الجندي المقاتل أن يضع في حسبانه ألا يستهلك كل ما معه من ذخيرة ، فاستبقاء طلقة واحدة في المدفع قدتساوي طائرة معادية ، أو دبابة أو مدرعة ، ومن هنا جاء التسليح الإضافي للطائرات لاحقا .
خامسا ، سماء المعركة وأرضها محايدة ، والنصر بيد الطيار المقاتل والجندي المقاتل وليس بالطائرة أو المعدة ، ومن هنا كانت مفاجأة حرب أكتوبر هي المقاتل المصري قبل السلاح .
سادسا ، سقوط وهزيمة الفانتوم ليس مجرد معركة جوية ، بل هزيمة لإسرائيل ومن خلفها مصانع السلاح الأمريكي ومخابرات الاستطلاع الأمريكية وطائراتها التي صورت كل شيء وأمدت به إسرائيل ، وهي كلها وسائل اشتركت بها أمريكا في الحرب مع حليفتها إسرائيل ، ونفس الكلام يقال عن انتصارات أكتوبر كلها وليس على مجرد معركة جوية واحدة ، فقد بهر المقاتل المصري العالم وقلب موازيين العلوم العسكرية ، وأثبت ان الجندي يأتي قبل السلاح ، وأن عبقرية المقاتل تتفوق على أحدث أنواع الأسلحة ، فقد قهر المقاتل المصري التكنولوجيا والأسحة الإلكترونية ، ونجح بالعزيمة والإصرار في صنع النصر ، ولولا الجسر الجوي الأمريكي بالسلاح الحديث والقذائف الموجهة والذي مدت به أمريكا حليفتها إسرائيل لكانت إسرائيل في مأزق وجودي بعد أن صرخت ( جولدا مائير ) قائلة للأمريكيين : ( انقذوا إسرائيل ) !
ختاما يقول القائد المصري لواء طيار فكري الجندي في كتاب ( سقوط الفانتوم ) : بعد طلعة المعركة الجوية وإسقاطي للفانتوم الإسرائيلي قبلت طائرتي الميج 17 وربت عليها مخاطبا إياها : ( والله طلعت طيارة عظيمة ) !.. وكانت تلك اللحظة قمة التوحد بين المقاتل وسلاحه ، أو بين الإنسان صاحب العزيمة والهدف وبين المعده أو الآلة ، ولا تزال حرب أكتوبر بمعاركها على كل الجبهات وبكل الأسلحة معينا لا ينضب من قصص النصر وحكايات البطولة والمجد والفخار والعزة ، وهي صفحات من الذهب نتذكرها كل عام ليس للتسلية بل للتأكيد على أن جيل النصر في اكتوبر سلم الراية مرفوعة خفاقة للأجيال التالية عليه ولا تزال رايات مصر مرفوعة خفاقة ، وقد انتقلت مصر لمعركة بناء دولة عصرية جديدة تلحق بركب الدول المتقدمة في عصر الرئيس السيسي أحد أبناء جيش مصر جيش النصر وجيش العبور والتحرير .

ذكرى نصر أكتوبر سقوط أسطورة الفانتوم هيئة الكتاب الكاتب الصحفي صلاح البيلي

الأخبار