انطلاق مؤتمر كلية دار العلوم الدولي: الاستشراق والهوية ـ مقاربات في اللغة والأدب والتراث
انطلقت اليوم الأحد فعاليات المؤتمر الدولي الذي نظمته كلية دار العلوم بعنوان "الاستشراق والهوية: مقاربات في اللغة والأدب والتراث العربي"، بحضور الأستاذ الدكتور أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية، والأستاذ الدكتور عيد بلبع عضو مجلس الشيوخ السابق، والسادة وكلاء الكلية الأستاذ الدكتور حجاج أنور وكيل الكلية لشؤون التعليم والطلاب، والأستاذ الدكتور علي عبد القادر عثمان وكيل الكلية لشؤون خدمة المجتمع وتنمية البيئة، والسادة رؤساء الأقسام، وأعضاء مجلس الكلية، وأساتذة الكلية وعلمائها وأعضاء هيئة التدريس، ولفيف من العلماء والباحثين وضيوف المؤتمر.
قوة الدولة ورهان المعرفة
وفي كلمته الافتتاحية، أكد الأستاذ الدكتور أحمد بلبولة عميد كلية دار العلوم ورئيس المؤتمر أن ما تشهده الكلية وجامعة القاهرة عمومًا يعكس قوة الدولة المصرية وإيمانها العميق بدور التعليم والبحث العلمي في بناء الإنسان وصناعة المستقبل. وأوضح أن دعم الكفاءات العلمية وتهيئة المناخ للباحثين والمفكرين والمبدعين بات سياسة مؤسسية واضحة، تتجلى في استضافة المؤتمرات الدولية الجادة، وتطوير منظومة البحث العلمي. وأشار إلى أن عنوان المؤتمر وفكرته جاءا باقتراح من معالي رئيس الجامعة، في تعبير واضح عن وعي القيادة الجامعية بأهمية قضايا الهوية والمعرفة، وضرورة أن تكون الجامعة في قلب هذا النقاش العالمي، لا على هامشه. مؤكدًا أن انعقاد هذا المؤتمر يأتي في توقيت بالغ الدلالة، في ظل تصاعد الأسئلة المتعلقة بالهوية، وتجدد النقاشات حول صورة الشرق في الوعي الغربي، وما يفرضه عالم اليوم من تداخل ثقافي ومعرفي يستدعي إعادة بناء خطاب علمي نقدي قادر على الفهم والتفكيك والحوار.
الاستشراق بين الفهم والتحيز
ومن جانبه، أوضح الأستاذ الدكتور محمود السعيد نائب رئيس الجامعة لشؤون الدراسات العليا والبحوث أن عنوان المؤتمر يفتح آفاقًا واسعة للتأمل والنقاش العلمي الرصين حول واحدة من أكثر الظواهر الفكرية والمعرفية تأثيرًا في علاقة الغرب بالعالم العربي والإسلامي. وأكد أن الاستشراق لم يكن مجرد دراسات لغوية أو أدبية، بل كان إطارًا معرفيًّا أسهم بدرجات متفاوتة في تشكيل الوعي الغربي بالشرق، بين جهود علمية منصفة وأخرى انحازت لسياقات سياسية وثقافية بعينها. وأضاف أن المؤتمر يكتسب أهمية خاصة في ظل ما يشهده العالم المعاصر من تداخل ثقافي متزايد، يفرض ضرورة إعادة بناء جسور الحوار العلمي بين الثقافات على أسس من الفهم المتبادل والاحترام والوعي التاريخي، مؤكدًا أن إدارة دار العلوم تحرص على أن تظل الكلية منبرًا للفكر المستنير، وحاضنة للحوار العلمي الجاد، وامتدادًا لدورها التاريخي في خدمة اللغة العربية والعلوم الإنسانية.
علي جمعة: الهوية تبدأ من اللغة
وفي كلمة اتسمت بالعمق والصفاء الفكري، أكد فضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة، الرئيس الشرفي للمؤتمر، أن الله تعالى أقام صرح دار العلوم العلمي للحفاظ على هوية الأمة ولغتها الصحيحة، مشددًا على أن اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة، وأن التفريط في اللغة هو تفريط في الوعي والهوية معًا. وأوضح أن موقف علماء مصر من الاستشراق لم يكن يومًا موقف رفض مطلق ولا قبول غير مشروط، بل موقف علمي رصين يقوم على التمييز: يُؤخذ من المستشرق الجاد الباحث عن الحقيقة، ويُضاف إليه، مع الحفاظ على الثوابت الحضارية. وأشار إلى أن المصريين، عبر تاريخهم، فتحوا أبوابهم وعقولهم وقلوبهم للعلماء المنصفين، وأن دار العلوم ظلت حصنًا منيعًا ضد التلاحن في اللغة العربية، وبوصلة للعمق في قراءة النصوص وفهمها. وختم كلمته بالتعبير عن شعوره بسكينة خاصة تحف هذا المؤتمر، داعيًا الله أن تظل دار العلوم مولدًا لكل خير، وصارفًا لكل شر، وأن تكون دائمًا طريقًا للعودة إلى الهوية والإنسانية معًا.
رؤية الدولة وبناء الحوار
وفي السياق ذاته، أكد الأستاذ الدكتور صفوت علي صالح وكيل الكلية لشؤون الدراسات العليا ومقرر المؤتمر أن انعقاد المؤتمر يتسق بعمق مع رؤية الدولة المصرية الحديثة في عهد فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، التي تقوم على بناء جسور الحوار، وترسيخ الفهم المتبادل مع الآخر، والانطلاق من القواسم الإنسانية المشتركة، مع ترسيخ الوعي بالذات والهوية الوطنية. وأشار إلى أن كلية دار العلوم تنطلق في خطتها البحثية من هذا التصور، عبر ربط قضايا الهوية بالمعرفة الحديثة، والدراسات البينية، والبحث العلمي الرصين، بما يعزز دور العلوم الإنسانية في صياغة وعي المجتمع ومواجهة التحديات الفكرية المعاصرة.
مداخلات فكرية وشهادات وطنية
وفي مداخلته، أكد الأستاذ الدكتور أحمد زايد صلابة الهوية المصرية وقدرتها التاريخية على مقاومة التشويه والمحو، مشيرًا إلى أن بعض الدراسات الاستشراقية صورت المجتمعات الشرقية بعين استعمارية، إلا أن المجتمع المصري بتاريخه وتركيبته ووعيه بقيمة الدولة وتماسكه الاجتماعي، ظل قادرًا على تجاوز هذه التحديات، مؤكدًا أن هوية الدولة المصرية "سبيكة من ذهب لا تصدأ". أما الأستاذ الدكتور عيد بلبع، ففرّق بين القراءة الناقدة والقراءة الناقضة، داعيًا إلى استقبال الخطاب الاستشراقي بمنهجية "القراءة على القراءة" القائمة على المراجعة والتحليل لا الرفض الانفعالي.
وفي كلمة حملت بعدًا وطنيًّا واضحًا، أكد الأستاذ الدكتور أيمن ميدان أن رئيس جامعة القاهرة لم يدخر جهدًا في خدمة دار العلوم، وأن رهانه عليها هو رهان رابح، مشددًا على أن الكلية تمثل لبنة أصيلة في بناء الدولة المصرية. وأضاف أن مصر، بتاريخها وحضارتها ومؤسساتها العلمية، خُلقت لتقود لا لتُقاد، وأن ما تشهده جامعة القاهرة اليوم يبعث على الإعجاب والانبهار داخل مصر وخارجها.
تكريم وإعلان الانطلاق
واختُتمت الجلسة بإعلان عميد الكلية انطلاق فعاليات المؤتمر، وتقديم درع الكلية لفضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة تقديرًا لمكانته العلمية والوطنية، ودرع الكلية للأستاذ الدكتور أحمد زايد، مع توجيه الشكر لأمانة المؤتمر واللجنة التنظيمية، إيذانًا ببدء حوار علمي رصين يعيد قراءة الاستشراق من موقع الهوية والثقة والمعرفة. ويؤكد أن دار العلوم لا تكتفي باستعادة تاريخها العريق، بل تواصل أداء دورها الحضاري بوصفها عقل اللغة العربية وضميرها العلمي، ومنصة لإعادة طرح الأسئلة الكبرى حول الهوية والمعرفة والإنسان، في زمن أحوج ما يكون إلى صوت العقل والحوار.

.png)
















