عيون التراث العربي.. قراءة نقدية في الجزء الثالث من كتاب الأغاني للأصفهاني
يعد كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني من أهم المصادر الأدب العربي القديم حتى العصر العباسي، ومن أبرز ما يتميز به أن مؤلفه اعتمد فيه على الرواية التي كان مجيدًا فيها، واتصاله المباشر مع عدد كبير من أمراء عصره المهتمين بالأدب والشعر والغناء ما أتاح له جمع أغلب الروايات القديمة عن الشعر والشعراء.
ترجمة المؤلف
"ولد أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد القرشي الأصفهاني سنة 284هـ/ 897م، بأصبهان، وتنقل في البلدان الإسلامية، وقضى عمره في بغداد قرب دار سليمان بن جعفر بن أبي جعفر المنصور على نهر دجلة.
ونادم أبو الفرج عددًا من أمراء العصور ووزرائهم وجالس الصاحب بن عباد والمهلبي وكان ذكيًا حافظًا إلا أن روايته اختلت حين تقدم به العمر، وكان إلى جانب روايته مجيدًا في اللغة"([1]).
"انتقل إلى بغداد وانصرف فيها إلى طلب العلم، ودرس على جلةٍ من علماء عصره، بينهم ابن دريد، وابن الأنباري، والأخفش، ونفطويه، والطبري، وغيرهم من رجال الشعر والأدب واللغة والنحو والحديث والتفسير والأنساب والأخبار والتاريخ، وكان أبو الفرج حاد الذهن، قوي الحافظة؛ فاستوعب من علمهم الشيء الكثير، وكان له مع ذلك إلمام بالطب والنجوم والموسيقى، فأتاحت له ثقافته الواسعة المتنوعة مكانة عالية، فتحت أمامه الأبواب المغلقة، فكان ينتقل كيف شاء بين كبريات المدن ومراكز الحضارة وعواصم الدولة، في بغداد وحلب وفارس، ولقى حظوة عند كبار رجال عصره، وكان أكثرهم إيثارًا له وحدبًا عليه الوزير المهلبي، وزير معز الدولة بن بويه، فانقطع عليه ومدحه وأصبح من ندمائه المقربين، إلى توفي في خلافة المطيع بالله عام 356هـ- 967م"([2]).
أهمية الكتاب
يعتبر الكتاب من أهم كتب الأدب العربي إذ يضم " أغلب الروايات القديمة والآراء في الشعر والشعراء كما أنه تبنى نظرية المدرسة البغدادية التي تنظر إلى الشعر على أساس القيم الذاتية للفنان بغض النظر عن الأديب أو الشاعر الذي أكده من قبل الجاحظ وابن قتيبة والصولي، وتمكن أبو الفرج، كما يبدو من أن يرسخ هذا الاتجاه فيما تلا من كتب أدبية كما يظهر في وساطة الجرجاني (ت 366هـ) وموازنة الآمدي وفاق من جاء بعده من نقاد الجمال الأدبي بأن وسع منهج الجاحظ في تحقيق النصوص والنظر في تسلسلها ونسبتها وشرحها وتوضيحها، وإن سعة الكتاب ساعدته على الاقتباس الكثير واختيار الجيد مما جعل من كتابه مرجعًا مهمًا لعدد كبير من الشعراء وأن طبيعة أبي الفرج في التأليف ساعدته على تصيد نوادر الأخبار وطرائف الأنباء مما جعل كتابه مرجعًا فريدًا لسير الشعراء وغريب أطوارهم ومضحكات عاداتهم.
ومن خلال نصوصه نتمكن من أن نتنسم طبيعة الحضارة الإسلامية وعادات أهلها وملابسهم وتقاليدهم وحياتهم التي كانوا يحيونها مما جعل كتاب الأغاني خزانة للحضارة الإسلامية في جميع أطوارها([3]).
"وجعله ابن خلدون أحد أركان الأدب الأربعة([4])، وقال عنه ديوان العرب، وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ، والغناء وسائر الأحول، ولا يعدله كتاب في ذلك فيه، فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليه الأديب ويقف عندها".. وقد أفاد منه المستشرق الإنجليزي فارمر فائدة كبيرة في كتاب تاريخ الموسيقى العربية، وقال عنه إنه كتاب من الطراز الأول في الإنتاج الأدبي للعرب، وقد أنفق فيه مؤلفه الجانب الأكبر من حياته، وإن المعارف الواسعة التي يعرضها، ودع جانبًا ما استلزمه من دأب وصبر، ليترك المرء خجلا مما يسمى في أيامنا أدب موسيقي"([5]).
ويتميز منهج الأصفهاني في كتابه الأغاني بالدقة، "لم يكن أبو الفرج، على كثرة ما أورده في كتابه، وعلى سعته وشموله، حاطب ليل، يدون كل شيء ويكتب كل ما يروى له، وإنما التزم منهجًا نقديًا محددًا إزاء المادة التي تعرض له.
فهو يورد أخباره مُسندة، ثم لا يقنع بالإسناد، وإنما ينتقد الرواة، ويبين وجه الخطأ أو التناقض في روايتهم، ثم يرجع إلى رأيه، ولا يتردد في القول عن ابن الكلبي، وقد ذكر بعض الأخبار نقلا عنه، بأنه كذاب، وأخباره موضوعة والتوليد فيها بين ويعتذر لنفسه عن روايتها بأنها ذكرها على ما فيه لئلا يسقط من الكتاب شيء وقد رواه الناس وتداولوه.([6])"
الجزء الثالث من الكتاب
يضم الجزء الثالث من الكتاب 22 شاعرًا وأديبًا- بحسب ترتيب طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2010م، ضمت أخبارهم ونسبهم، إلى جانب أشعارهم التي جدّ في أسانيدها، وتصحيح بعضها، فقد روى الأصفهاني في هذا الجزء عن كل من: قيس بن الخطيم وأبي عبدالمنعم طويس، والدارمي، وهلال بين الأسعر، وعروة بن الورد، وذي الإصبع العدواني، وقَيلٍ مولى العَبَلات، وغريض اليهودي، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، وابن صاحب الوضوء، وبشار ابن برد، الذي أفرد له وحده ما يمكن أن يكون كتابًا كاملاً عن نسبه وأخباره وأشعاره وطرائفه، ويزيد بن حوراء، وعُكاشة العمّي، وعبدالرحمن الدفاق، والحادرة (الحويدرة) قطبة بن أوس من الجاهليين، وسعيد بن مِسجح، وابن المولى، وعطرّد مولى بني عمرو بن عوف، والحارث المخزومي والأبجر وموسى شهوات.
والملاحظ أن الأصفهاني في هذا الجزء لم يرتب اختيارته على عصر معين- كعادته في الكتاب-، بل ينتمي الشعراء الذين روى عنهم إلى الجاهلية وصدر الإسلام، والعصر الأموي والعباسي بدون ترتيب زمني أو حتى هجائي.
وقد اعتمد الأصفهاني هنا على الرواة الموثوقين وترك المضعفين منهم والذين يضعون الأخبار وينحلون الأشعار أو يروون كل ما يقع تحت أيديهم دون تثبت فهو حريص على إثبات ذلك في اسم ونسب الشاعر وحياته وأخباره قبل شعره.
الأصفهاني مؤرخًا
يمكن أن ترى الأصفهاني مؤرخًا ونسابة بقدر ما ترى لديه دقته في الرواية والتثبت منها، ففي بداية الجزء الثالث يتحدث عن قيس بن الخطيم تحت عنوان (ذكر قيس بن الخطيم وأخباره ونسبه)، قال الأصفهاني:
" وكان أبوه الخطيم قتل وهو صغير قتله رجل من بني حارثة بن الحارث بن الخزرج فلما بلغ قتل قاتل أبيه ونشبت لذلك حروب بين قومه وبين الخزرج وكان سببها خداش بن زهير يساعد قيس بن الخطيم على الأخذ بالثأر، فأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أخبرني أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي عن المفضل قال:
كان سبب قتل الخطيم أن رجلاً من بني حارثة بن الحارث بن الخزرج، يُقال له مالك اغتاله فقتله وقيس يومئذ صغير، وكان عدي أبو الخطيم أيضا قتل قبله، قتله رجل من عبد القيس؛ فلما بلغ قيس بن الخطيم وعرف أخبار قومه وموضع ثأره، ولم يزل يلتمس غرة من قاتل أبيه وجده في المواسم حتى ظفر بقاتل أبيه بيثرب؛ فقتله وظفر بقاتل جده بذي المجاز؛ فلما أصابه وجده في ركب عظيم من قومه، ولم يكن معه إلا رهط من الأوس؛ فخرج حتى أتى حذيفة بن بدر الفزاري فاستنجده؛ فلم ينجده، فأتى خداش بن زهير فنهض معه ببني عامر حتى أتوا قاتل عدي فإذا هو واقف على راحلته في السوق فطعنه قيس بحربة فقتله ثم استم؛ر فأراده رهط الرجل؛ فحالت بنو عامر دونه فقال في ذلك قيس بن الخطيم:
ثأرتُ عَدِيّاً والخَطيمَ فلم أُضِعْ ... وِلايةَ أشباخٍ جُعلتُ إزاءَها
ضربتُ بذي الزَّجَّيْنِ رِبْقةَ مالكٍ ... فأُبتُ بنفسٍ قد أصبتُ شفاءَها
وسامَحَنِي فيها ابنُ عمرو بنِ عامرٍ ... خِدَاشٌ فأدَّى نعمةً وأفاءها
طعنتُ ابنَ عبد القَيْس طعنةَ ثائرٍ ... لها نَفَذٌ لولا الشُّعاعُ أضاءها
ملكت بها كفِّي فأَنْهَرْتُ فَتْقَها ... يَرى قائمٌ من دونِها ما وراءَها
هذه رواية ابن الأعرابي عن المفضل"([7])، كما نقل رواية أخرى عن هذه المقتلة عن ابن الكلبي.
ذكر أنساب الشعراء
من أبرزهم، بشار بن برد، فقد اهتم أبو الفرج بتفاصيل دقيقة في شخصيته ونسبه وأخباره، ومن الأخبار التي رواها عنه أن أمه باعته بدينارين، فقال: أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثني الحسن بن عليل العنزي قال: حدثنا قعنب بن المحرز الباهلي قال: حدثني محمد بن الحجاج قال: باعت أم بشار بشارًا على أم الظباء السدوسية بدينارين فأعتقته، وأم الظباء امرأة أوس بن ثعلبة أحد بني تيم اللات بن ثعلبة"([8]).
كما يرجع إلى رواية بشار بن برد نفسه عن نسبه، ومن المعروف أن رواية الشاعر عن نفسه تكون من أعلى الروايات ضبطًا.
نقل الأصفهاني عن بشار أنه قال: "لما دخلت على المهدي قال لي: فيمن تعتد يا بشار؟ فقلت: أما اللسان والزي فعربيان، وأما الأصل فعجمي، كما قلت في شعري يا أمير المؤمنين:
وَنُبِّئتُ قَومـــــــــــــــــــــــــاً بِهِم جـــِنَّةٌ يَقولونَ مَن ذا وَكُنتُ العَلـــــــــــــــَم
أَلا أَيُّها السائِلي جـــــــــــــــــــــــاهِداً لِيَعرِفَني أَنا أَنفُ الكـــــــــــــــــــــــــــــَرَم
نَمَت في الكِرامِ بِني عامِرٍ فُروعي وَأَصلي قُرَيشُ العَجَــــم
فَإِنّي لأُغنــــــــــــــي مَقامَ الفَتى وَأُصبي الفَتاةَ فَما تَعتَصِـــــــــــــــم
التثبت من الرواية
ويهتم الأصفهاني في هذا الجزء بإسناد الشعر إلى أصحابه، كما في بعض الأبيات التي اختلف في نسبتها لأصحابها فيما رواه عن أبي عمرو ابن العلاء وأسنده إلى بشار بن برد، قال الأصفهاني:
"أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز ويحيى بن علي قالوا حدثنا عمر بن شبة قال:
كان الأصمعي يقول إن بشارا خاتمة الشعراء والله لولا أن أيامه تأخرت لفضلته على كثير منهم
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبو الفضل المروزي قال حدثني قعنب بن المحرز الباهلي قال قال الأصمعي:
لقي أبو عمرو بن العلاء بعض الرواة فقال له يا أبا عمرو من أبدع الناس بيتا قال الذي يقول
لم يَطُلْ ليلى ولكن لم أنَمْ ... ونفَى عنِّي الكَرَى طيفٌ ألمّ
رَوِّحي عنّي قليلاً واعلَمي ... أنّني يا عَبْدَ من لحمٍ ودَمْ
قال فمن أمدح الناس قال الذي يقول:
لَمَستُ بكفّي كفَّه أبتغِي الغِنَى ... ولم أدر أنّ الجود من كفّه يُعْدِي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنَى ... أفدتُ وأعداني فأَتلفت ما عندِي
قال فمن أهجى الناس قال الذي يقول:
رأيت السُّهيْلَينَ استوَى الجودُ فيهما ... على بُعْد ذا من ذاك في حُكم حاكمِ
سُهَيل بن عثمانٍ يَجود بماله ... كما جاد بالوَجْعا سُهَيلُ بن سالمِ
قال وهذه الأبيات (كلها لبشار).
المراجع والهوامش
([1]) انظر ترجمته: سلوم؛ داود، منهج أبي الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني في دراسة النص والسيرة، مطبعة الإيمان، بغداد، العراق، 1969م، ص 5.
([2]) انظر أيضا: سعفان، أحمد، في الرواية والتدوين، ومصادر الأدب العربي، جامعة المنصورة، ص 179
([3]) سلوم؛ داود، منهج أبي الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني في دراسة النص والسيرة، مطبعة الإيمان، بغداد، العراق، 1969م، ص 10- 11.
([4]) أركان الأدب الأربعة التي ذكرها ابن خلدون هي: (أدب الكتّاب) لابن قتيبة، وكتاب (الكامل) للمبرِّد، وكتاب (البيان والتبيين) للجاحظ، وكتاب (النوادر) لأبي علي القالي البغدادي
([5]) سعفان، أحمد، في الرواية والتدوين، ومصادر الأدب العربي، جامعة المنصورة، ص 182
([6]) السابق
([7]) الأغاني، 3/2-3.
([8]) الأصفهاني، أبو الفرج، كتاب الأغاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، 2010م، 3/137.

.png)




















