الوثيقة
الإسلام السياسي

التكفير والتفجير.. كيف بدأ التفسير السياسي المنحرف للإسلام؟

تعبيرية
تعبيرية

ظهر التفسير السياسي للإسلام المبني على التكفير والتفجير خلال العصر الحديث، خلال الثلث الأول من القرن الماضي، وتضافرت عدة عوامل على تغذيته وإنمائه، خاصة بعد انهيار الخلافة العثمانية، التي أدى انهيارها إلى حالة من التخبط، والحيرة حول كيف يعيش المسلمون بدون خلافة وخليفة؟، الأمر الذي أدى لظهور اتجاهات وتفسيرات سياسية ودينية للخلافة وأمور الحكم، كان من أبرز نتائجها معركة كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، لعلي عبد الرازق في العشرينيات من القرن الماضي، وكان نظام الحكم في الإسلام، هو أصل النزاع الذي أدى لظهور التفسير السياسي للإسلام في العصر الحديث، السطور التالية تلقي الضوء على نشأة التفسير السياسي للإسلام في العصر الحديث وكيف تحول المفسرون من مجرد الشرح المبني على تأويلات مخترعة، إلى التكفير والتفجير.

البدايات

مر التفسير السياسي للإسلام بثلاثة مراحلة رئيسية بدأت بمرحلة التمهيد والتأصيل العلمي لهذه التفسير بناء على تأويلات وفهم مغلوط لمفهوم الألوهية الذي تحول على يد الجماعات التكفيرية فيما بعد إلى ما يطلقون عليه "توحيد الحاكمية" الذي صار أساسا وركنا من اركان الإيمان، ومعنى الألوهية كما يعرفها العلماء: "توحيد الله تعالى بالعبادة"، إلا أن هذه الجماعات حرفت هذه المفهوم العام وخصصته بأمور الحكم والسياسة، وحدها، واطلقت عليه اسم "توحيد الحاكمية"، استنادا لقوله تعالى: { إنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} [يوسف:30].

ثم جاءت المرحلة الثانية، والتي ظهرت في الستينات من القرن الماضي على يد الجماعات المنبثقة من جماعة الإخوان المسلمين، أما المرحلة الثالثة، فقد انطلقت مع شرارة بدء الجهاد الأفغاني التي يمكن أن نقول إن تأثيرها مازال ممتدا إلى اليوم.

المرحلة الأولى

في رسالة جامعية بعنوان، "القصة الكاملة لخوارج العصر" قال الباحث إبراهيم صالح الحميد: "من واقع البحث والاستقراء لجذور أصول التفسير السياسي المنحرف للإسلام، والذي ارتكز فكر التكفير والتفجير عليه، أنه بدأ سنة 1939م، وكانت الشرارة محاضرات لأبي الأعلى المودودي بعنوان (نظرية الإسلام)، خرجت بعد ذلك في رسالة مستقلة، وترجمت للعربية سنة 1946م، وملخص هذه الرسالة أن الكفار والمشركين على مر العصور لم ينكروا وجود الله، وكانوا يقرون لله بالخلق والتدبير حتى فرعون والنمرود"(1).

ثم ينقل المؤلف فقرة من كتاب المودوي عن قصة النمرود والتي قال فيها: "فالنزاع لم يكن في انه: مَن رب السماوات والأرض؟ ومن بيده ملكوت كل شيء؟ بل كان جداله في: من هو مالك رقاب الناس، والذين منهم في بابل خاصة؟ فلم يكن من دعواه أنه هو (الله)، بل كان يقول: إني رب هذه البلاد وأهلها!، ولم يقل بذلك إلا لأنه كان مالكا لرقاب الناس آخذا زمام الملك بيده، يتصرف فيه كيف يشاء، ويسوق الشعب بعصا سلطانه"...

"فهذه الألوهية التي ادعاها فرعون ونمرود ليست بقاصرة عليها، بل نجد الملوك في كل أرض، وفي كل زمان ينتحلون تلك الألوهية ويدعونها... ومازال الناس في العصور الغابرة سائرين على هذه الخطة، وكذلك حالهم اليوم في معظم أقطار العالم" (2).

وإذا نظرنا إلى تطبيق هذه النظرة التي تؤصل لتفسير سياسي للإسلام فيمكننا تلمسها في مؤلف آخر من مؤلفات المودودي والتي يقول فيها:

"ثبت لنا باليقين والبرهان والمشاهدة أنه لا أمل في صلاح العالم، ولا رجاء في استقامة الأمور على موازين الرشاد والحق ما دام أولئك الطغاة المنحرفون عن الله ورسوله يتصرفون في شئون الملك، ويديرون أموره ويشرفون على جليلها وصغيرها، فمن مقتضيات إسلامنا وعبوديتنا الخالصة لله الواحد الأحد أن نجد ونجتهد، ونبذل الجهود المتواصلة والمساعي المتتابعة للقضاء على زعامة أئمة الكفر والضلال واجتثاث النظم الباطلة من جذروها، وإحلال الإمامة العادلة والنظام الحق محلها"(3)

وانتقلت هذه الأفكار التي أسس لها المودودي- بالتوازي مع ظهور افكار سيد قطب في مصر- تفسيرا سياسيا جديدا لإسلام مبنيا على العمل الحركي الذي يرى أن الإسلام قد اختفى من الوجود، وأنه لا سبيل إلى الوصول إليه إلا عن طريق الجماعات التكفيرية.

وتمت بالفعل ترجمة هذه الأفكار من الجماعات الإرهابية، فهذا مثلا أبو مصعب السوري القيادي بتنظيم القاعدة يتحدث عن تأثير مؤلفات المودوي على الجماعات التكفيرية، فيقول:

"واشتمل أحد أهم كتبه وهو (المصطلحات الأربعة) على كثير من أساسيات الفكر الجهادي المعاصر"(4).

المرحلة الثانية

وبدأت هذه المرحلة من خلال الأفكار التي تبنتها الجماعات التكفيرية المنبثقة عن الإخوان المسلمين، وهي مرتبطة ارتباطا فكريا وثيقا بالمرحلة السابقة، التي تعتبر مرحلة الإعداد لها، وتمثلت في جماعة الشكريين، وجماعة الجهاد، والجماعة الإسلامية، وكانت هذه الجماعات ترجمة حركية لأفكار سيد قطب والمودودي، وظهر خلالها الكثير من المؤلفات التي تحمل هذا الفكر، ومنها كتاب الفريضة الغائبة لعبد السلام فرج؛ الذي بدل اقوال علماء المسلمين منذ صدر الإسلام حول المشركين المحاربين، وأسقطها على المسلمين، كما أسقطت هذه الجماعات، أحكام الجهاد التي تحدث عنها العلماء على الحكومات والشعوب الإسلامية باعتبار أن العالم قد خلا من الإسلام تماما إلا لديهم وحدهم، ومن أبرز أفكار الجماعات التكفيرية في هذه المرحلة:
-أن الديار الإسلامية قد صارت ديار كفار.
- إعلان الجهاد ضد الحكومات العربية والإسلامية
-وجوب إقامة الدولة الإسلامية.

ومن أبرز جرائم هذه المرحلة اغتيال الرئيس الأسبق أنور السادات، وما وقع خلال فترة الثمانينات والتسعينات من عمليات إرهابية وغيرها.

المرحلة الثالثة

بدأت هذه المرحلة بعد الدعوة العالمية للجهاد في أفغانستان، نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وتميزت هذه المرحلة بالعالمية والتأثير الضخم على الجماعات التكفيرية، نتيجة الاحتكاك المباشر بين عناصر هذه الجماعات، والوضوح في الأفكار التي تبلورت على أرض أفغانستان، وتم تصديرها إلى كل بلاد العالم الإسلامي، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي والتي ظهر خلالها تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن.

انتقل الجهاد في هذه المرحلة من أفغانستان- الذي كانت تباركه أغلب الدول الإسلامية وقتها- إلى الجهاد ضد الدول الإسلامية نفسها، وانتقل التكفير إلى مرحلة خطيرة، من مجرد تكفير الحكومات إلى تكفير الشعوب وظهور مصطلح الطائفة الممتنعة والعذر بالجهل وتحريف هذه المصطلحات بما يواكب المرحلة، ومن أبرز منظري هذه المرحلة ابو محمد المقدسي الذي صنف مجموعة كتب تحمل هذه الأفكار، ومنها كتاب «ملة إبراهيم» الذى يشبه كتاب «معالم فى الطريق» لسيد قطب، وكان للكتاب أثر كبير في فكر الجماعات الإرهابية كتأثير كتاب المعالم لسيد قطب.

يقوم كتاب «ملة إبراهيم» على فكرة مفادها الأخذ بملة الخليل إبراهيم عليه السلام الذى أمرنا الله بالاقتداء به كما في نص الآية الكريمة: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ».

وفى هذا الكتيب يتبرأ المقدسى وأتباعه من كل منهج يخالف منهجهم بحجة مخالفته لملة إبراهيم عليه السلام، وقد وجه المقدسى سهام التكفير للمساجد والبرلمانات والجيوش, وكتابه "تحفة الأبرار في أحكام مساجد الضرار" كما لم تسلم المدارس من سهام تكفيره في كتابه: "إعداد القادة الفوارس بهجر فساد المدارس".

وامتد تأثير هذه المرحلة إلى جميع الدول الإسلامية، وكان من نتيجته العشرية السوداء في الجزائر، التي لعبت الجماعات المدعومة من قادة الجهاد الأفغاني دورا كبيرا.

وشهدت هذه المرحلة تحولا كبيرا بعد أحداث 11 سبتمبر إلى أن جاء الربيع العربي وظهرت جماعات أخرى أبرزها تنظيم داعش الإرهابي.
________________________
هوامش ومراجع:
(1)القصة الكاملة لخوارج العصر، ص35.
(2)نظرية الإسلام السياسية، للمودودي، ص15-17.
(3) تذكرة يا دعاة الإسلام، أبو الأعلى المودودي، ص7.
(4)دعوة المقاومة الإسلامية، أبو مصعب السوري، ص38، وانظر ايضا: القصة الكاملة لخوارج العصر، ص36.

التكفير الإرهاب الجماعات الإسلامية الوثيقة

الإسلام السياسي