الوثيقة
الرأي الحر

مالك السعيد المحامي يكتب: من الورقيات إلى الرقمية.. استراتيجية مصر نحو نظام قضائي حديث وفعال

مالك السعيد المحامي
مالك السعيد المحامي


في ظل التحولات الرقمية المتسارعة عالميًا، باتت العدالة الرقمية ضرورة استراتيجية لضمان فعالية النظام القضائي ومواءمته مع متطلبات العصر الحديث. يشكل التحول الرقمي أداة أساسية لتسريع الإجراءات القضائية، تعزيز الشفافية، وخفض التكاليف التشغيلية، وهو ما يجعل الدول العربية، وعلى رأسها مصر، تبحث عن استراتيجيات فعّالة لتطوير أنظمتها القضائية بما يتوافق مع الثورة الرقمية. وتعكس العدالة الرقمية قدرة الدولة على تقديم خدمات قضائية أسرع وأكثر كفاءة، مع تحسين جودة الخدمات القانونية للمواطنين وتقليل المراحل الإجرائية التقليدية التي تستغرق وقتًا طويلًا.
شهدت مصر خطوات ملموسة نحو التحول الرقمي، خاصة في المحاكم الاقتصادية، التي تعتبر نموذجًا لتطبيق العدالة الرقمية بشكل فعّال. طبقًا لدراسة منشورة في "مجلة القانون والتكنولوجيا الناشئة" (2022)، تم تنفيذ النظام الإلكتروني في المحاكم الاقتصادية بموجب القانون رقم 146 لسنة 2019، مما ساهم في تقليل زمن معالجة القضايا بنسبة تصل إلى 40% مقارنة بالطرق التقليدية، وخفض التكاليف التشغيلية للمتقاضين بنسبة نحو 30% سنويًا. وقد مكنت هذه الخطوة من توفير وقت أطول للقضاة للتركيز على القضايا الأكثر تعقيدًا، مع تقليل الاعتماد على الورقيات، وبالتالي الحد من الأخطاء البشرية المرتبطة بالإجراءات التقليدية.
ورغم هذه الإنجازات، لا يزال التطبيق محدودًا في المحاكم الجنائية ومحاكم الأحوال الشخصية، وهو ما يعكس تحديًا كبيرًا أمام تحقيق العدالة الرقمية على نطاق واسع. يُضاف إلى ذلك التفاوت في مستوى تجهيزات البنية التحتية بين المحافظات، حيث تفتقر بعض المحاكم إلى شبكات الإنترنت عالية السرعة وأجهزة الحواسيب الحديثة، وهو ما يعيق تبني النظام الرقمي بشكل متكامل ويحد من استفادة المواطنين من الخدمات القضائية الإلكترونية.
تواجه العدالة الرقمية في مصر عدة تحديات رئيسية، منها ضعف التدريب والتأهيل للقضاة والعاملين بالمحاكم، إذ يحتاج النظام الرقمي إلى كوادر قانونية مؤهلة قادرة على التعامل مع المنصات الإلكترونية وإدارة القضايا بطريقة سلسة وفعّالة. كما يمثل الأمن السيبراني وحماية البيانات تحديًا كبيرًا، فمع زيادة الاعتماد على الأنظمة الرقمية، تصبح المخاطر المرتبطة بالاختراق أو فقدان المعلومات أكثر جدية. ويضاف إلى ذلك ضعف التوعية المجتمعية، حيث لا يزال عدد كبير من المواطنين غير مدرك لكيفية استخدام المنصات الرقمية القضائية، مما يؤدي إلى عزوف البعض عن الاستفادة من الخدمات الحديثة.
يمكن لمصر الاستفادة من التجارب العالمية لتعزيز العدالة الرقمية، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية البيئة القضائية المصرية. ففي الإمارات، تُعتبر العدالة الرقمية جزءًا أساسيًا من استراتيجية الحكومة الذكية، حيث تُجرى نحو 94% من القضايا القضائية عبر الإنترنت، وفقًا لتقرير "مجلة العدالة والتكنولوجيا" (2024). وقد ساهم هذا التطبيق في تقليل الحاجة إلى القاعات التقليدية بنسبة تتجاوز 50%، وخفض التكاليف التشغيلية للمحاكم بشكل كبير، بالإضافة إلى تقليص زمن معالجة القضايا إلى أقل من نصف المدة المعتادة، مما يعكس فاعلية التحول الرقمي في تحقيق العدالة الناجزة والفعّالة.
أما في السعودية، فقد نجحت المحاكم في رقمنة قطاع التنفيذ القضائي، حيث تم استلام أكثر من 800,000 طلب إلكتروني خلال عام واحد، وفقًا لتقرير "زوايا" (2022). وقد أدى دمج خمسة أنظمة تشغيلية في نظام واحد ذكي تفاعلي إلى تقليل الخطوات الإجرائية بنسبة 60%، وزيادة مستوى الشفافية في الإجراءات القضائية. كما ساهم النظام الإلكتروني في الحد من التأخير في تنفيذ الأحكام بنسبة 35%، وهو مؤشر مهم يعكس كفاءة الرقمنة في تحسين فعالية النظام القضائي.
التجربة الصينية موجودة بشكل محدود في المقال، حيث تعتمد على المحاكم الذكية باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في بعض القضايا، لكنها ليست محور التركيز الرئيسي. الهدف هو الاستفادة من التجارب العربية القابلة للتطبيق عمليًا في السياق المصري.
لمواجهة المشكلات القائمة وتعزيز العدالة الرقمية، يمكن تبني عدة حلول مبتكرة وفعالة. أولًا، تطوير البنية التحتية الرقمية لجميع المحاكم، مع توفير أجهزة حديثة وشبكات إنترنت عالية السرعة، وربط كافة المحاكم بنظام إلكتروني موحد يتيح تبادل البيانات بسهولة وسرعة. ثانيًا، تدريب القضاة والعاملين بالمحاكم من خلال برامج تدريبية مكثفة لتطوير مهاراتهم في التعامل مع الأدوات الرقمية، بما يشمل إدارة القضايا إلكترونيًا واستخدام الذكاء الاصطناعي للتحليل القانوني. ثالثًا، تعزيز الأمن السيبراني من خلال اعتماد بروتوكولات متقدمة لحماية البيانات ومنصات التحكيم الرقمية، للحد من مخاطر الاختراق وفقدان المعلومات.
رابعًا، التوعية المجتمعية عبر حملات إعلامية لتعليم المواطنين كيفية استخدام المنصات الرقمية القضائية، مع توفير دعم فني مباشر، لضمان وصول جميع الفئات العمرية والاقتصادية إلى العدالة الرقمية بسهولة. خامسًا، تحديث الإطار القانوني لتشمل تنظيم المعاملات الرقمية والاعتماد الرسمي على الأدلة الإلكترونية، بما يعزز من مصداقية النظام القضائي ويقلل المنازعات القانونية المستقبلية.
للعدالة الرقمية أثر كبير على فعالية النظام القضائي، إذ تساهم في تقليل زمن البت في القضايا، وزيادة رضا المواطنين عن سرعة إنجاز القضايا، وتحقيق عدالة ناجزة من خلال تسريع الإجراءات وتقليل الأخطاء البشرية. كما يتيح التحول الرقمي خفض التكاليف التشغيلية بنسبة تتراوح بين 30% و50% في المحاكم التي تعتمد بالكامل على الأنظمة الإلكترونية، وزيادة مستوى الشفافية والمساءلة من خلال توثيق كل خطوة من الإجراءات القضائية، وهو ما يقلل حالات الفساد والتلاعب ويتيح مراقبة أفضل للأداء القضائي.
تجربة التحول الرقمي في المحاكم الاقتصادية المصرية تشير إلى أن التوسع في تطبيق النظام الرقمي على كافة المحاكم يمكن أن يحدث نقلة نوعية، بشرط دعم العملية بالاستثمارات المناسبة، وتوفير التدريب المستمر، ووضع خطة استراتيجية واضحة لتعميم النظام الرقمي خلال فترة زمنية محددة، مع تخصيص ميزانية سنوية لدعم التحول الرقمي، وتحديث الأنظمة الإلكترونية بشكل دوري لضمان استمرارية التطوير ومواكبة التحديثات العالمية.
إن الانتقال إلى العدالة الرقمية في مصر ليس خيارًا تقنيًا فحسب، بل ضرورة استراتيجية لضمان فعالية النظام القضائي، وتحقيق العدالة الناجزة، وتوفير خدمات قضائية متكاملة وعصرية. من خلال تبني الحلول الابتكارية، وتعميم التجارب الناجحة في الإمارات والسعودية، يمكن لمصر أن تحقق نظامًا قضائيًا رقميًا حديثًا، يعزز ثقة المواطنين ويضمن إدارة القضايا بكفاءة أعلى وتقليل زمن المعالجة والتكاليف التشغيلية، بما يواكب معايير العدالة الرقمية العالمية.

الرأي الحر