مالك السعيد المحامي يكتب: العقود الإلكترونية بين اعتراف القانون ومراوغات المستخدمين.. طرق الحل والمواجهة


مالك السعيد المحامي يكتب: العقود الإلكترونية بين اعتراف القانون ومراوغات المستخدمين.. طرق الحل والمواجهة
في عصر تحوّل المعاملات إلى شكل رقمي سريع ومتزايد، يطرح السؤال القانوني البسيط والمصيري في آن واحد: هل تعتبر عقود الإنترنت والوثائق الموقعة إلكترونيًا ملزمة قانونًا في مصر؟ الجواب المختصر: نعم — لكن بشرط. فالإطار القانوني المصري اعترف بالتوقيع الإلكتروني منذ منتصف العقد الأول من الألفية، وحدد شروطًا وإجراءات تقنية وقضائية تجعل من بعض أشكال التوقيع الإلكتروني حجةً تُعتمد أمام القضاء، بينما يترك للفصل القضائي إثبات صحة بعض المعاملات الأخرى تبعًا لطبيعة التنفيذ ودرجة الأمان المستخدمة . (WIPO, IU Robert H. McKinney School of Law)
القانون الأساس الذي يحدد هذا الاعتراف هو القانون رقم 15 لسنة 2004، المعروف بقانون التوقيع الإلكتروني، والذي أنشأ جهة تنظيمية خاصة (هيئة أو جهاز إدارة تكنولوجيا المعلومات) ذات مهام ترخيص ومراقبة مزودي خدمات التوثيق الرقمي وإصدار الشهادات الرقمية. بموجب هذا القانون، تُعرّف الوثيقة الإلكترونية والتوقيع الإلكتروني، ويُمنح للتوقيع الإلكتروني الصيغة الاعتبارية بشرط توافُر عناصر الأمان والتوثيق التي يحددها القانون واللوائح التنفيذية. (WIPO)
لكن الجملة "يعترف بها القانون" تحتاج إلى تفصيل: يميّز الإطار التشريعي بين التوقيع البسيط والتوقيع الآمن/المؤمن (secure or advanced electronic signature). التوقيع البسيط — مثل كتابة اسم في بريد إلكتروني أو وضع صورة توقيع — قد يعطي قرينة قبول ولكنه ليس تلقائيًا حجة قطعية أمام المحاكم. أما التوقيع الإلكتروني الآمن، الذي يصدر عن هيئة تصديق مرخّصة ويعتمد بنية تشفيرية وبنية شهادات رقمية (PKI)، فهو الذي يتمتع بقوة إثباتية أقوى ويقرب الوثيقة الإلكترونية إلى منزلة "الكتابة والتوقيع" التقليديين في الأحكام والمآلات القانونية. (IU Robert H. McKinney School of Law, ICLG International Business Reports).
في السنوات الأخيرة شهدت اللوائح التنفيذية تحديثات مهمة. أصدر جهاز وزارة الاتصالات قرارًا بتنقيح وتحديث اللوائح التنفيذية المتعلقة بالتوقيع الإلكتروني، من بينها القرار رقم 361 لسنة 2020 الذي عدّل لوائح سابقة، كما فرضت تشريعات وإجراءات إدارية على استخدام التوقيعات المتقدمة في معاملات محددة (مثل الفواتير الإلكترونية). هذه التعديلات جاءت لتواكب تطور السوق الرقمي ولتسهيل الاعتماد المؤسسي على التوقيعات الرقمية، لكنها أيضًا شدّدت متطلبات الأمن والاعتماد على مزوّدي خدمات موثوقين مرخّصين.
دليل عملي واحد على تصاعد أهمية التوقيع الإلكتروني هو نظام الفاتورة الإلكترونية الذي فرضته مصلحة الضرائب: إذ نصت لوائح التطبيق على متطلبات تقنية منها (1) الترميز الفريد للفاتورة و(2) استخدام التوقيعات الإلكترونية المتقدمة (Advanced Electronic Signatures) لربط مصدر الفاتورة ومضمونها وضمان عدم التلاعب، وذلك بمرسوم وإجراءات دخلت حيّز التنفيذ ابتداءً من 2021 وما بعده. هذا يعني أن بعض القطاعات — خاصة المالية والضريبية — باتت تُجبر فعليًا على اعتماد توقيعات إلكترونية بمواصفات محددة، ما يعزز من مشروعية العقود الإلكترونية في الواقع العملي. (Wafeq)
من زاوية الأدلة والإثبات في المحكمة، ينصّ القانون على قابلية الوثيقة الإلكترونية لأن تُقبل دليلاً، بشرط إمكانية التثبت من سلامة وسند الوثيقة ومن شخصية من صدر عنه التوقيع. في الممارسة، يعتمد القاضي على خبرات فنية وتقارير جهات فنية مرخّصة لإثبات الهوية التقنية وسلامة السجل الرقمي؛ وإذا ثبت تزوير أو قصور في تدابير الأمان، قد يرفض القاضي الحجية القانونية للتوقيع. كما أن هناك عقوبات وإجراءات عند سوء الاستخدام أو مخالفات المعايير، تتراوح بين الغرامات المالية إلى العقوبات الإدارية تجاه مزوّدي الخدمة غير المرخّصين.
إذن ما الذي يجعل العقد الإلكتروني «قابلًا للتنفيذ» عمليًا في مصر؟ يمكن تلخيص الشروط العملية في ثلاث نقاط تقنية وقانونية أساسية:
وجود نية التعاقد وإظهارها بشكل إلكتروني (عرض وقبول رقميان يمكن تتبعهما).
توثيق هوية الموقع باستخدام توقيع إلكتروني معتمد / أو شهادات مصدّقة من جهات مرخّصة PKI أو حلول تحقق قوية.
قابلية التثبت من سلامة الوثيقة وعدم تغييرها بعد التوقيع (حفظ السجل الرقمي بأساليب تحقق زمنية وتشفير وتوثيق (WIPO, IU Robert H. McKinney School of Law).
على أرض الواقع التجاري والعملي، كثير من الشركات والمؤسسات الحكومية بدأ يقبل العقود الإلكترونية ويعتمدها (بصفة خاصة في المعاملات ذات المِقدار التقني أو تلك التي تنطوي على إصدارات فواتير أو عقود خدمات رقمية). ومع ذلك، تبقى بعض الصناعات المحافظة — مثل نقل الملكيات العقارية أو عقود محددة تتطلب توثيقًا خاصًا — تستدعي توخّي التحرك ببطء وطلب تبني توقيعات إلكترونية متقدمة أو إتمام إجراءات تحكيمية/توكيلات تقليدية لضمان المناعة القانونية الكاملة. (ICLG International Business Reports, JLR Journals)
ما الذي يجب أن يتوقعه المشرّع والقضاء مستقبلاً؟ التوجه الدولي والمحلي يشير إلى مزيد من الرقمنة وتضييق الفجوة بين الأشكال التقليدية والرقمية، مع تشديد على معايير الأمان، وحوكمة مزوّدي خدمات التوقيع، وربما توسعة لائحة المعاملات التي تُلزَم باستخدام توقيع إلكتروني متقدم (كما حدث في منظومة الفاتورة الإلكترونية). لذلك، على الشركات والمواطنين عدم الاكتفاء بفهم أن “التوقيع الإلكتروني مسموح” فحسب، بل ضرورة الاطلاع على نوع التوقيع واعتماد حلول فنية وقانونية تضمن الحماية التنفيذية. (ICLG International Business Reports, Wafeq).
أبرز المشكلات الخاصة بالعقود الإلكترونية رغم الإطار القانوني الواضح نسبيًا، ما زالت العقود الإلكترونية في مصر تواجه عدة تحديات. أبرزها ضعف الوعي القانوني والتقني لدى الأفراد والشركات، مما يؤدي لاستخدام توقيعات بسيطة أو غير معتمدة، فتضعف حجيتها أمام القضاء. كذلك، هناك بطء في تبني بعض الجهات الحكومية والخاصة للبنية التحتية الرقمية اللازمة، خاصة في القطاعات التقليدية مثل العقارات والتوثيق العقاري. بالإضافة إلى ذلك، يبرز خطر الهجمات السيبرانية أو الاختراقات التي قد تؤدي إلى تعديل أو تزوير البيانات، وهو ما يضع عبئًا إضافيًا على الأطراف لإثبات صحة المعاملة. كما أن التكاليف المرتفعة نسبيًا لخدمات التوقيع الإلكتروني المعتمد، وعدم وضوح بعض الإجراءات الإدارية، قد يشكلان عائقًا أمام الانتشار الواسع لهذه العقود.
والحلول المقترحة لتجاوز هذه العقبات، يتطلب الأمر خطة متكاملة تبدأ برفع الوعي العام من خلال حملات إعلامية وتدريبية تشرح الأسس القانونية والتقنية للعقود الإلكترونية. كما ينبغي توسيع شبكة مزوّدي الخدمات المرخّصين وخفض تكاليف الاشتراك في التوقيع الإلكتروني، مع تقديم حوافز للشركات الصغيرة والأفراد لاعتماد هذه التقنية. على الصعيد الأمني، يجب تعزيز نظم الحماية والتشفير، وربطها بآليات تحقق متعددة العوامل (Multi-Factor Authentication) لضمان سلامة الوثائق. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تطوير منصات حكومية موحدة للعقود الإلكترونية الموثقة، ما يسهل التعاملات ويقلل من التباين بين القطاعات المختلفة، ويضمن حجية هذه العقود أمام القضاء.
خلاصة سريعة لمن يريد إبرام عقد إلكتروني في مصر اليوم: نعم يمكنك إبرام عقد إلكتروني واعتباره ملزمًا قانونيًا، بشرط أن تعتمد على مزوّد خدمات توقيع مرخّص، وأن تختار توقيعًا آمنًا (Advanced/Qualified) حيث يتطلب الأمر، وأن تحافظ على سجلات رقمية قابلة للتحقق زمنياً وفنياً. كما يُنصح بأن تُدرج في العقد بنودًا واضحة حول آليات التوقيع، مكان الإشراف التقني، وجهة التحكيم أو القضاء المختار في حال النزاع، وإجراءات حفظ السجلات والنسخ.
في الختام: العقود الإلكترونية في مصر معترف بها قانونًا منذ 2004، وقد تعزز الاعتراف هذا عبر تحديثات ولوائح تنفيذية حديثة وعمليات تطبيق واقعية (كالفاتورة الإلكترونية) — لكن قوة الحجية تعتمد دومًا على مستوى الأمان والتوثيق المستخدمين. لكل من يريد أن يقتحم الميدان الرقمي بنجاح: الأمان القانوني يبدأ من الأمان التقني.