الوثيقة
الرأي الحر

مالك السعيد يكتب : العدالة الجنائية في مواجهة جرائم الإنترنت.. معالجات قانونية وحلول مقترحة لمواكبة التحول الرقمي المتسارع

مالك السعيد المحامي
مالك السعيد المحامي

مالك السعيد يكتب : العدالة الجنائية في مواجهة جرائم الإنترنت.. معالجات قانونية وحلول مقترحة لمواكبة التحول الرقمي المتسارع


تتسارع الخطى نحو الرقمنة الشاملة أصبحت الجريمة أيضًا أكثر تعقيدًا ومرونة إذ باتت ترتدي أقنعة رقمية وتتحرك بخفة عبر الحدود والشبكات والهواتف المحمولة والبرمجيات الخبيثة بينما بقي القانون الجنائي في كثير من الأحيان متمسكًا بأدوات تقليدية غير قادرة على مجاراة التحولات الجذرية في شكل الجريمة وأطرافها ومسرحها.
لم تعد الجريمة محصورة في مسدس أو سكين أو خزينة بنكية بل باتت تُرتكب خلف شاشة حاسوب بكبسة زر واحدة يمكن أن تُسرق ملايين الدولارات أو يتم تشويه السمعة أو اختراق أنظمة دولية حساسة أو التلاعب في بيانات انتخابية أو سرقة هويات شخصية وبيعها على الشبكة المظلمة وفي كل مرة يواجه القانون الجنائي سؤالًا صعبًا حول مدى قدرته على اللحاق بهذا التطور.
تشير تقارير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة UNODC إلى أن الجرائم الإلكترونية تتزايد عالميًا بمعدل يتراوح بين 15 إلى 20 بالمائة سنويًا وهي نسبة مرشحة للارتفاع مع انتشار الذكاء الاصطناعي وتطبيقات الواقع الافتراضي والبلوك تشين كما كشفت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد أن أكثر من 75 بالمائة من الجهات الحكومية في الدول النامية تعاني من ضعف البنية الفنية والتشريعية لمواجهة التحديات السيبرانية.
تكمن الإشكالية الجوهرية في أن الكثير من القوانين لا تزال تفتقر إلى تعريفات واضحة ودقيقة للجرائم الرقمية كما أن العقوبات في معظم التشريعات تبدو غير متناسبة مع حجم الضرر أو معقدة في إثباتها بسبب ضعف ثقافة التعامل مع الأدلة الرقمية وفقر الإمكانيات التقنية لدى جهات التحقيق وهو ما يُضعف من الردع العام ويُشجع على تكرار الفعل.
وفي أوروبا تشير بيانات المركز الأوروبي للجرائم السيبرانية EC3 إلى أن أقل من 20 بالمائة من الجرائم الإلكترونية المبلغ عنها تنتهي بإدانة جنائية مما يكشف عن وجود فجوة كبيرة بين الرصد الفني والملاحقة القانونية وهي فجوة ناجمة عن صعوبة تتبع المجرمين الرقميين وندرة الكفاءات المتخصصة في تحليل البصمات الرقمية والتعامل مع المعطيات التقنية المعقدة.
محليًا تسجل مصر تصاعدًا لافتًا في معدلات الجرائم الإلكترونية حيث أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن عدد بلاغات الابتزاز الإلكتروني في عام 2024 تجاوز 35 ألف بلاغ بنسبة زيادة تبلغ 70 بالمائة مقارنة بعام 2022 في حين لم تصدر المحاكم سوى 3 آلاف حكم قضائي في هذا النوع من القضايا وهو ما يعكس عجزًا واضحًا بين حجم الجريمة والاستجابة العدلية.
هذا الوضع يدعو إلى إجراء إصلاحات قانونية وتشريعية جذرية تبدأ بتحديث منظومة القوانين الجنائية لتشمل تعريفات دقيقة ومحدثة لمختلف أنواع الجرائم الإلكترونية وإدماج أدوات الإثبات الرقمي كجزء أساسي من مسار التحقيق والمحاكمة كما يتطلب الأمر تعزيز قدرات النيابة العامة وهيئات الشرطة في مجال التحليل الرقمي والأدلة السيبرانية.
وقد شهدت بعض الدول تجارب ناجحة في سد الفجوة بين القانون والتكنولوجيا أبرزها تجربة سنغافورة التي تبنت استراتيجية وطنية متكاملة للأمن السيبراني تضمنت تعديلات تشريعية وتأسيس هيئة متخصصة لحماية البنية الرقمية وتدريب الكوادر الأمنية كما أنشأت محاكم رقمية مزودة بفرق فنية مختصة لفحص الأدلة التقنية بما عزز من قدرة القضاء على مواجهة هذا النوع من الجرائم.
في الولايات المتحدة الأمريكية جرى تطوير تشريع "قانون جرائم الحاسوب والاحتيال" ليواكب الجرائم المستحدثة مثل القرصنة والهجمات الموجهة ضد البنية التحتية الحيوية كما تم تأسيس وحدات "FBI Cyber Division" المتخصصة في ملاحقة الجريمة السيبرانية بالتعاون مع الوكالات الدولية وهو ما ساهم في رفع معدلات الكشف عن هذه الجرائم وتوسيع نطاق الردع.
أما في المنطقة العربية فقد بدأت دول مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر في تبني منظومات تشريعية حديثة لمكافحة الجريمة الرقمية حيث أصدرت الإمارات قانونًا شاملًا في الجرائم الإلكترونية شمل عقوبات رادعة وغرامات مالية ضخمة وربطًا مباشرًا بين النيابة العامة والهيئات الفنية بينما أنشأت السعودية هيئة "الأمن السيبراني" وتعاونت مع شركات عالمية لتعزيز منظومة الحماية الرقمية.
وفي الأردن تم إنشاء وحدة متخصصة للجرائم الإلكترونية تابعة لإدارة البحث الجنائي ووضعت آلية لملاحقة المحتوى الضار عبر منصات التواصل الاجتماعي وجرى تعديل قانون الجرائم الإلكترونية عدة مرات ليواكب المستجدات وتطوير القدرات الفنية لدى الكوادر المعنية.
في نهاية المطاف لم تعد العدالة الجنائية في العالم الرقمي مجرد مسألة قانونية دارجة نتعامل معها بتؤدة .. بل أصبحت معركة سيادية على الأمن المجتمعي والأمن القومي ولزوميات عاجلة لحماية الأفراد والمؤسسات، فالتحولات الرقمية لن تنتظر المشرّعين وإن لم تتحرك الأنظمة القانونية بسرعة فسيبقى المجرمون على بعد خطوة واحدة دائمًا من العدالة.

الرأي الحر