الوثيقة
مدكور: اجتماعات الأمم المتحدة محطة فاصلة للقضية الفلسطينية وتجسّد الدور المصرية في تبني حق الفلسطينيينمدحت الكمار: كلمة مصر بالأمم المتحدة تؤكد ثوابت مصر وحق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلةمالك السعيد المحامي يكتب: الميراث في عصر ”بنوك الأجنة المجمدة”.. إشكالية تعيد كتابة قوانين التركات مجدداً وتثير جدلًا فقهيًا وقانونيًا أمام المحاكمدكتورة فاتن فتحي تكتب: دعوة لإنشاء ”مرصد وطني” لحماية كبار المرضى والمسنين.أحمد الخولي : ”مون ستون العالمية” تستعد لإطلاق حزمة برامج ورحلات سياحية محلياً ودولياً تناسب شرائح السياح والمسافرينباسم الجمل: كلمة الرئيس السيسي بالأكاديمية العسكرية حملت رسائل وطنية عميقة تمثل خريطة طريق للشباب في مسيرة بناء الوطننجلاء العسيلي: انسحاب الوفود رسالة قوية تكشف عزلة الكيان الصهيوني دوليًااتحاد عمال تحالف الأحزاب ينعى شهداء لقمة العيش بالمحلة الكبرى ويطالب بتشديد إجراءات السلامة المهنيةعمر الغنيمي: الاعتراف الأوروبي بالدولة الفلسطينية خطوة تعزز إسرائيل دوليًاغادة البدوي تشيد بمخرجات قمة القادة العرب والمسلمين مع ترامب بشأن غزةالنائبة أمل سلامة: القيادة السياسية حققت نقلة نوعية في مسيرة المرأة المصريةالجيل: العالم الحر لا يتوحد خلف وقف العدوان على غزة بل وإقامة دولة فلسطين
الرأي الحر

دكتورة فاتن فتحي تكتب: دعوة لإنشاء ”مرصد وطني” لحماية كبار المرضى والمسنين.

دكتورة فاتن فتحي
دكتورة فاتن فتحي

في زوايا كثيرة من سكنات البيوت بعيدا عن ضجيج العالم يقضي كبار السن أيامهم منسيين مهملين حتى من أقرب الناس إليهم.. الإهمال ليس مجرد نقص في العناية، بل قد يكون بوابة لموت بطيء صحيًا ونفسيًا قبل أن يكون جسديًا، الحقائق صادمة والأرقام مقلقة والقصص موجعة.. التمريض المنزلي إذا تم وفق المعايير الإنسانية والمهنية قد يكون مفتاح الإنقاذ من هذا المصير القاسي.
الإحصائيات تكشف حجم الكارثة.. تقرير منظمة الصحة العالمية يشير إلى أن واحدًا من كل ستة أشخاص فوق سن الستين يتعرض لإساءة أو إهمال سنويًا، أي ما يقارب 141 مليون مسن حول العالم، ففي أوروبا تصل نسبة من يتعرضون لإهمال جسدي أو نفسي إلى نحو 20%، بينما تشير تقديرات في الولايات المتحدة إلى أن 10% من كبار السن يواجهون شكلاً من أشكال الإساءة أغلبها الإهمال.
في تركيا تبين الإحصائيات أن 56.5% من المسنين الذين يعيشون بمفردهم كانوا الأكثر عرضة لذلك، وفي مصر وجدت دراسة بمديرية المنصورة أن 43.7% من كبار السن تعرضوا لإساءة وكان الإهمال هو النوع الغالب بنسبة 42.4%. أما في القاهرة فأظهرت دراسة أن 69.4% من المسنين تعرضوا لإساءة خلال عام واحد وكان الإهمال الذاتي في مراتب متقدمة بعد الإساءة النفسية.
وعلى المستوى العربي تكشف الدراسات عن اتجاه متقارب في الأرقام، حبث أثبتت دراسة محلية أنه في "الفيوم " وخلال جائحة كورونا تبين أن 72.6% من كبار السن تعرضوا لنوع من الإساءة، وكان الإهمال النفسي والعاطفي بنسبة 71.1% والإهمال العام بنسبة 64.7%، وفي قرى ريفية بالمنصورة أُبلغ أن 46% من المسنين تعرضوا لإساءة وكان الإهمال في المقدمة بنسبة 40%. خارج مصر جاءت النتائج مشابهة ففي إيران 71.1% من كبار السن تعرضوا لشكل من أشكال الإساءة خلال عام واحد، وفي السعودية أكدت مراجعات علمية أن نسب الإساءة مرتفعة خاصة من حيث الإهمال وسوء المعاملة النفسية، هذه الأرقام تعني ببساطة أن ملايين من كبار السن يعيشون موتًا صامتًا داخل جدران منازلهم.
وراء الأرقام وجوه إنسانية مؤلمة، كثيرات من السيدات المسنات– خاصة من الأقاليم - أصيبن بجلطات جعلتهنغير قادرات على الحركة بينما يعمل ابنائهن بعيدًا ولا يستطيعوا توفير تمريض منزلي دائم فيظللن أيامًا بلا تنظيف أو تغيير للضمادات حتى يصبن بقرحة/ ضغط/عدوى خطيرة، وفي الولايات المتحدة ظهرت حالات مشابهة لمسنيين تُركوا لساعات طويلة في منازلهم دون طعام أو رعاية حتى عثرت عليهم فرق الطوارئ في حالة حرجة.
المخاطر الصحية والنفسية مدمرة. جسديًا قد يصاب المسن بقرح الضغط والجفاف والالتهابات وسوء التغذية والسقوط وما يتبعه من كسور أو إعاقات. نفسيًا يعيش شعور الوحدة والاكتئاب وانعدام الأمل وفقدان الكرامة. اجتماعيًا يتفاقم ضعف العلاقات واستنزاف الموارد المالية والاعتماد المفرط على الآخرين. دراسة كندية شملت أكثر من 106 آلاف مسن أظهرت أن من لديهم مؤشرات إهمال مثل الجفاف أو العدوى كانوا أكثر عرضة للوفاة خلال 90 يومًا بنسبة تجاوزت 30% مقارنة بغيرهم.
الإهمال لا يحدث صدفة بل له عوامل خطر واضحة. كبار السن الذين يعتمدون كليًا على الآخرين أكثر عرضة، والضغوط المالية تضاعف الأزمة، والوحدة الاجتماعية تزيدها قسوة، والأمراض المزمنة كالسكري والخرف والزهايمر تضعف قدرتهم على الصمود. ضعف الوعي الصحي لدى الأسر والمسنين أنفسهم يجعل أبسط القواعد الوقائية مهملة مثل شرب الماء بانتظام أو استخدام أدوات مساعدة للحركة. في مجتمعات كثيرة ما يزال التعامل مع الشيخوخة مرتبطًا بوصمة اجتماعية تُشعر المسن بأنه عبء ثقيل فيختار الانعزال ما يضاعف الإهمال الذاتي.
الحل يكمن في التمريض المنزلي كأمل ينبض. الممرض المحترف قادر على رصد التغيرات الجسدية والنفسية وتداركها مبكرًا، وضبط الأدوية بدقة، وتلبية الاحتياجات الأساسية من نظافة وتغذية ورعاية، وتقديم دعم نفسي واجتماعي يحافظ على الكرامة، والتنسيق مع الأطباء عند الضرورة. تشير تقارير بريطانية إلى أن الاستثمار في خدمات التمريض المنزلي يقلل نسبة دخول المسنين إلى المستشفيات بنحو 25% سنويًا ويوفر ملايين الجنيهات من النفقات العلاجية.
المطلوب إصلاح شامل يبدأ بتشريعات واضحة تحمي حقوق كبار السن وتشجع على الإبلاغ عن أي إهمال أو إساءة. ويشمل أيضًا توعية مجتمعية واسعة عبر الإعلام والمؤسسات الدينية والمدارس لترسيخ ثقافة احترام المسن ورعايته. كما يتطلب تدريب الممرضين على الجوانب النفسية والإنسانية إضافة إلى المهارات التقنية والتمريضية، مع دعم اقتصادي للأسر التي تعاني ضغوطًا مالية عبر برامج رعاية اجتماعية وصناديق دعم. وجود آليات بلاغ سريعة وخطوط ساخنة للتدخل عند وجود إهمال بات ضرورة عاجلة لحماية أرواح قد تضيع في ساعات.
المستقبل يطرح تحديات أكبر.. الأمم المتحدة تتوقع أن عدد من تجاوزوا الستين سيصل إلى 2.1 مليار شخص بحلول 2050 أي أكثر من ضعف العدد الحالي، هذا النمو السكاني يعني أن مشكلة إهمال المسنين ستتفاقم إذا لم يتم وضع خطط استراتيجية من الآن، بعض الدول بدأت بالفعل خطوات مهمة مثل اليابان التي أنشأت مراكز مراقبة مجتمعية للمسنين الذين يعيشون بمفردهم، وكندا التي وسعت من برامج التمريض المنزلي مع دمج التكنولوجيا عبر أجهزة استشعار تتابع المؤشرات الحيوية وتطلق تنبيهًا إذا حدث خلل.
وفي الختام .. يبرز أهمية مقترح تأسيس مرصد وطني لرصد الإهمال والإساءة للمسنين في مصر والعالم العربي، يعمل هذا المرصد على جمع البيانات بدقة، وتحليلها، وإصدار تقارير دورية شفافة، وربطها بآليات تدخل سريع وحلول عملية. وتأتي أهمية هذا المقترح من نجاح مبادرات مشابهة مثل خط نجدة الطفل 16000 الذي أصبح منصة وطنية لتلقي البلاغات والتدخل العاجل لحماية الأطفال من العنف والإهمال، وقد ساهم في إنقاذ آلاف الحالات سنويًا من مصير مجهول. إن استنساخ هذا النموذج وتكييفه مع احتياجات كبار السن يعني تحويل المعاناة الصامتة إلى قضية عامة مرئية، وتوفير قناة آمنة للتبليغ والتدخل. مثل هذا المرصد سيكون بمثابة عين المجتمع على من لا يملكون صوتًا وضمانة أن لا يظل الموت في صمت قدرًا محتومًا للمسنين. فالمسألة ليست رفاهية ولا قضية عائلية ضيقة بل مسؤولية عامة تحدد مدى إنسانيتنا كأفراد ومجتمع.

الرأي الحر