الوثيقة
مدكور: اجتماعات الأمم المتحدة محطة فاصلة للقضية الفلسطينية وتجسّد الدور المصرية في تبني حق الفلسطينيينمدحت الكمار: كلمة مصر بالأمم المتحدة تؤكد ثوابت مصر وحق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلةمالك السعيد المحامي يكتب: الميراث في عصر ”بنوك الأجنة المجمدة”.. إشكالية تعيد كتابة قوانين التركات مجدداً وتثير جدلًا فقهيًا وقانونيًا أمام المحاكمدكتورة فاتن فتحي تكتب: دعوة لإنشاء ”مرصد وطني” لحماية كبار المرضى والمسنين.أحمد الخولي : ”مون ستون العالمية” تستعد لإطلاق حزمة برامج ورحلات سياحية محلياً ودولياً تناسب شرائح السياح والمسافرينباسم الجمل: كلمة الرئيس السيسي بالأكاديمية العسكرية حملت رسائل وطنية عميقة تمثل خريطة طريق للشباب في مسيرة بناء الوطننجلاء العسيلي: انسحاب الوفود رسالة قوية تكشف عزلة الكيان الصهيوني دوليًااتحاد عمال تحالف الأحزاب ينعى شهداء لقمة العيش بالمحلة الكبرى ويطالب بتشديد إجراءات السلامة المهنيةعمر الغنيمي: الاعتراف الأوروبي بالدولة الفلسطينية خطوة تعزز إسرائيل دوليًاغادة البدوي تشيد بمخرجات قمة القادة العرب والمسلمين مع ترامب بشأن غزةالنائبة أمل سلامة: القيادة السياسية حققت نقلة نوعية في مسيرة المرأة المصريةالجيل: العالم الحر لا يتوحد خلف وقف العدوان على غزة بل وإقامة دولة فلسطين
الرأي الحر

مالك السعيد المحامي يكتب: الميراث في عصر ”بنوك الأجنة المجمدة”.. إشكالية تعيد كتابة قوانين التركات مجدداً وتثير جدلًا فقهيًا وقانونيًا أمام المحاكم

مالك السعيد المحامي
مالك السعيد المحامي

لم يعد الميراث في زمننا الحالي مسألة موت وحياة تُحسم بلحظة انقطاع النفس الأخير، بل أصبح جزء منه أسير بنوك الأجنة وثلاجات معقمة تحوي أجنة مجمدة تنتظر قرارًا طبيًا أو قضائيًا لتبصر النور بعد سنوات من رحيل الآباء.. هنا تنقلب الموازين " طفل يولد بعد موت أبيه بسنوات"، وأسرة تكتشف أن الميراث الذي وزع قبل عقد من الزمان قد عاد إلى ساحة النزاع، وحقوق جديدة تطرق أبواب المحاكم، وأسئلة ملتهبة تتحدى الفقه والقانون والأعراف معًا، أيُّ عدالة تلك التي تسمح لجنين خرج من رحم التجميد أن يشارك أعمامه أو إخوته في الميراث؟ وأيُّ نظام قادر على موازنة الطب بالدين والمال بالهوية؟ إنها ليست قصة خيال علمي، بل واقع يطرق أبوابنا بشدة ويهدد بإعادة كتابة قواعد الإرث من جديد.
الوقائع العلمية نفسها توضّح حجم الملف: في الولايات المتحدة مثلاً، سجلت مراصد الصحة أن عشرات الآلاف من دورات التجميد تحدث سنويًا — في 2022 كانت هناك 184,423 دورة حفظ بويضات أو أجنة، وأسفرت دورات التلقيح المبلغ عنها عن نحو 98,289 مولودًا حيًا، ما يظهر أن الأجنة المجمدة ليست استثناء بل جزء متنامٍ من منظومة الإنجاب. هذا الكمّ يضع أمام القانون احتمالاتٍ متعددة لولاداتٍ متأخرة وادعاءات ميراث لاحقة.
الفقه والقانون تواجهان سؤلاً مركزياً: متى تنقطع الأهلية للميراث؟ التقليد الفقهي الإسلامي يعترف منذ زمن بحق الجنين إذا وُلد حيًا، لكن الاجتهاد لم يتعامل عمليًا مع جنين يقبع خارج الرحم لسنوات ثم يُولد بعد وفاة أحد الوالدين، ومعنى ذلك أن الاجتهاد الفقهي والقانوني مطالبان اليوم بتوضيح معيار ثابت للتطبيق العملي. وفي الممارسة القضائية العالمية ظهرت معالجات متباينة تعكس فروقًا بين الاعتماد على إرادة الأطراف المسبقة وبين قواعد الوضع العام.
المحاكم الأمريكية كانت من بين أولى الجهات التي واجهت تناقضات الأعضاء البشرية المحفوظة، فحكم مجلس ولاية تينيسي في قضية Davis v. Davis (1992) مثل نقطة فاصلة حين اعتبر القواعد التعاقدية والاعتبارات الأخلاقية والأثر العملي عند تقرير مصير الأجنة المجمدة، مما وضع إطارًا يُلجأ إليه في النزاعات اللاحقة حول مصير الأجنة وحقوق الأطراف. وعلى نحوٍ موازٍ، قضت محاكم نيويورك في Kass v. Kass (1998) بأن ما وقع عليه الزوجان من اتفاق مستنِد هو الحاكم إذا كان واضحًا، مما سلّط الضوء على أهمية العقود والوثائق الموقعة في مراكز التلقيح. هذان السابقتان يبرزان سمتين أساسيتين: غياب قانون شامل وضرورة التعاقد الواضح.
وعلى مستوى التشريعات الوطنية ثمة اختلافات جذرية: بعض الدول أعطت الأولوية لمنع الحمل بعد وفاة أحد الزوجين فرضًا أو بصيغة ضيقة، وفي فرنسا على سبيل المثال ظل حظر الإنجاب الطبي بعد الوفاة قائمًا معتبرًا أن السماح به يتعارض مع قواعد عامة متعلقة بالنظام العام، بينما دولٌ أخرى تركت الباب لقواعد الاستثناء أو لتفسير القضاء. هذه التباينات تنتج حالة من عدم اليقين للأسر والعيادات وتفتح بابًا لنزاعات دولية وأخلاقية حول حقوق النسل والهوية والوراثة.
في العالم العربي والأوساط الدينية تبدو المسألة أكثر تحفظًا.. موجة من الفتاوى والضوابط الإدارية تحصر استخدام الأجنة بعد وفاة الرجل ضمن شروط صارمة أو تحرّمها بالكامل في بعض المذاهب أو تحت قيود محددة، كما أن بعض أنظمة عمل وحدات التلقيح تفرض اشتراطات حول التصرف في الأجنة وبنودًا تعاقدية لحماية العيادات والأطراف. هذا المناخ يتطلب تفعيل أُطر تشريعية واضحة تنسق بين الصحة العامة وحقوق الأسرة والفقه.
الأثر الاجتماعي عمليًا يمتد إلى ما بعد المال: ولادة طفل بعد سنوات قد تعيد فتح تركةٍ سبق تقسيمها، وتولد نزاعات بين الأخوة والورثة الذين تصرّفت أموالهم بناءً على وضعٍ افترض الاستقرار. كما تبرز أسئلة عن أحقيّة الطفل المتأخر في الميراث، وعن التزامات الرعاية والوصاية والهوية القانونية للطفل تجاه عائلةٍ لم تعرفه من قبل. هذا كله قد يهزّ التماسك الأسري ويفتح أبوابًا لإجراءات قضائية ممتدة.
من زاوية الحقوق والعدالة يبرز جدل أخلاقي: هل من العدل أن يُحرم جنين من ميراثٍ لأنه لم يولد وقت موت المورث بينما يمكن لآخرين يُولدون لاحقًا أن يطالبوا؟ أم أن السماح بالاستخراج والاستخدام بعد الوفاة يبيح استغلالًا لجسد المتوفى والسمات الوراثية؟ هنا يتداخل الحق في الحياة مع حقوق المتوفى وحرمة جسده وطبيعة الموافقة المسبقة، لذلك تميل الكثير من الاقتراحات إلى اشتراط موافقة صريحة ومسبقة من الطرف المتبرع (الزوج أو الشخص المانح) كشرط أساسي لاستخدام الأجنة بعد الموت.
التجربة العملية تُظهر أيضًا أن العقود والوثائق الموقّعة لدى مركز التلقيح يمكن أن تُجنّب كثيرًا من النزاع؛ فالقضاء يميل إلى احترام الإرادة المسبقة الواضحة للأطراف كما في قضايا سابقة، مما يجعل من الضروري أن تُشتمل سجلات التجميد على بنود دقيقة تتناول مصير الأجنة في حال الوفاة أو الطلاق أو أي ظرف طارئ، وتحدد من له الحق في التصرف ومن له الأولوية في الاستعمال أو التبرّع أو الإتلاف.
البدائل التشريعية المقترحة عملية ومتعددة: تشريع يحدد أن استحقاق الميراث للجنين يرتبط بولادته الحيّة ضمن مهلة زمنية محددة بعد وفاة المورث، أو اشتراط موافقة مكتوبة مسبقة من المتوفى تسمح بالاستعمال البعدي، أو إلزام مراكز التلقيح بعقود قياسية تحمي الأطراف، أو إدخال قواعد خاصة بالوصايا تعالج حالة الأجنة المجمدة بوضوح. كل حلّ يحتاج إلى توازن بين حماية حقوق الطفل المحتمل وحق المجتمع في استقرار تقسيم التركات.
الخبرات العملية القاسية تُذكرنا بأن الحوادث لا تبقى نظرية: حوادث فقدان أو تدمير مخزونات أجنة في مناطق صراع أو كوارث بيّنت مدى هشاشة تلك المخزونات وتأثيرها النفسي والاجتماعي على الأزواج. هذه الأمثلة تؤكد الحاجة إلى ضوابط لحماية الأجنة المجمّدة بمستوى أمني وقانوني متقدم، وكذلك لآليات تعويض ورقابة واضحة عند الإخلال.
لكي تكون القوانين قابلة للتنفيذ يجب أن تراعي خصوصية السياق الإسلامي والعربي: اقتراح قانونٍ وطنيّ يحدّد شروط الاستعمال بعد الوفاة، ويعترف بالموافقة المسبقة كأداة مركزية، وينظّم مهلة زمنية للولادة المتأخرة، ويؤطّر حقوق الطفل الناشئ، ويفرض آليات لحفظ السجلات والسماح للورثة بالاستعداد المالي والمعنوي للحالات المحتملة، سيكون خطوة كبيرة لتقليل النزاعات.
ختامًا..الميراث في عصر الأجنة المجمدة ليست مسألة تقنية بحتة بل انعكاس لصراع بين زمن القانون وزمن الطب والضمير الاجتماعي؛ المطلوب اليوم تشريعات واضحة، عقود موافقة قياسية في عيادات التلقيح، ووعي فقهي يُجدد الاجتهادات بحسب مقتضى المصلحة العامة، كل ذلك لحماية الطفل المحتمل وضمان استقرار منظومة الميراث وعدم تحويل الأسر إلى ساحات صراع قضائي طويل.

الرأي الحر