الوثيقة
الرأي الحر

التشيع اللا إرادي.. لماذا يميل المثقفون إلى التعاطف معهم وموالاتهم (1)

الوثيقة

ارتباط الثقافة والتنوير بالتشيع والاعتزال ليس بالأمر الجديد أو الطارئ على الأمة الإسلامية اليوم، لكنه موغل في القدم ولسنا هنا بصدد التأريخ لهذا الارتباط ولا كيف بدأ، المهم التعرف على آلياته والأسباب الداعية إلى نموه في السنوات الأخيرة، منذ السبعينات من القرن الماضي إلى اليوم.

فمع انتشار الفوضى العلمية التي عمت بها البلوى في هذه الفترة زاد الخوض في الشرائع من غير وازع ولا ضابط، ونالت سهام المثقفين والمتنورين من التراث السُني على وجه التحديد، بدعوى رفع الجمود عن فهم الكتاب والسنة الموروث عن السلف، باعتبار أنهم رجال ونحن رجال، وجاء ذلك كله تحت شعارات عدة منها التحرر من التقليد والقيود الفكرية التي تتمثل في نصوص الوحي، في شكل ثورة على كتب التراث السني، وسط تنامي تيار التطرف الديني بين الجماعات الإسلامية، إضافة لما اختلط بذلك من دعوات شتى لما يسمى تجديد الخطاب الديني، ونبذ الكراهية والتسامح.

والملاحظ في وسط هذا المناخ هو التعامل العنيف مع كل ما يرتبط بالمذهب السُني مقابل اللين والتعاطف مع الجانب الشيعي، الذي يحمل عداءً متوارثًا لكل ما هو سُني، وقبل الدخول في أسباب ميل المثقفين والمتنورين إلى التشيع بشكل متعمد، وغير متعمد، لابد أولا أن نشير هنا إلى أن هذه المسألة- مسألة الثورة على الموروث عند التنوريين- قد لاحظها الكثير من الكتاب المنصفين- وليس الفقهاء- الذين دونوا ذلك في مقالاتهم وكتبهم، وهو ما يمكننا بداية من التعرف على العقل التنويري عن قرب، وأرجعوها إلى شعور بالنقص الذاتي لديهم وانعدام الثقة في أنفسهم، فمن هؤلاء الكتاب المحسوبين على الثقافة الكاتب جلال أمين في كتابه "التنوير المزيف"، يقول أمين في مقدمته:

"بل لا أخفي على القارئ أني اكتشفت أن تقييمي للمثقفين والكتاب المصريين، بل وللسياسيين أيضا، وترتيب مكانتهم في نظري، إنما يكاد يتطابق مع درجة تقديري لمدى شعورهم بالعار كما يبين لي من كتاباتهم وتصريحاتهم ومواقفهم، هذا فيما يبدو لي هو إذن سر نفوري من كتابات د. زكي نجيب محمود مثلا، فقد كان يعاني في رأيي، من شعور عميق بالعار إزاء الغرب ، لم يفارقه حتى بعد أن بدأ يكتب تلك الكتب التي يقال إنه اعترف فيها بأهمية التراث".

ويخرج بنتيجة مهمة في المقدمة مفادها:
"أن ما يسمى تنويرًا عندنا هو في حقيقته مسخ لشخصية الأمة وعبث بتراثها، وتضحية بلا مقابل بأغلى وأعز ما فيها".
وتلخص هذه الفقرة مقدمة كتاب أمين التي أكد خلالها أن التنويريين جميعهم وقعوا في فخ الإعجاب بالغرب وبتقاليده التي ثبت لديه أنها مجرد أشياء لا تصلح مع مجتمعاتنا، فثاروا على الموروث واعتبروه معرّة ينبغي الخلاص منها والانعتاق من التقيد بها.
كما يضع يدك على أهم ما تراه من هذه الفئة فيقول جلال أمين أيضا عن عقلية التزعة التنويرية في كتابه "التنوير الزائف" أنها:

"ترفع لواء التسامح مع الآراء المخالفة للرأي السائد، خاصة فيما يتعلق بالمعتقدات الدينية، والتحرر من الأغلال المقيدة للفكر والتعبير، والمتمثلة فيما يفرضه الرأي الشائع من قسر وإجبار، قد يصل إلى حد الإرهاب، على مسايرة التقاليد والأعراف السائدة، والمصادقة على ما يقوله القدماء دون مناقشة وقد ارتبطت هذه الحركة بالضرورة، وكما يتضح مما سبق، بإعلاء شأن العقل واعتباره الميزان الوحيد للحكم على الأشياء، مقارنا بمجرد التقليد، حتى لو تعارض مع ما تعارف عليه الناس على اعتباره من المقدسات"

إذن نخرج من هنا أن غاية التنوريين والمثقفين هي العبث بتراث الأمة بلا مقابل، وبالتالي فإن التقلب في صفحات الماضي، للبحث عن عثرات الأسلاف هو أقصر الطرق لهذه العملية المجانية التي تعتبر أثمن هدية لأعداء هذه الأمة.

فإذا كان أثمن ما لدينا من كنوز هو تراثنا الإسلامي المبني على الكتاب والسنة الذي تناقله السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى يوم الناس هذا، قد وجد تاريخًا موازيًا، يحاول غرس كل نقيصة به، بهدف هدم هذا الصرح العظيم منذ بدايته، والذي أعلن عن نفسه مبكرًا حتى قبل أفول عصر كبار الصحابة في الفتنة الكبرى التي كانت ولاتزال الابتلاء الأكبر لأمتنا الإسلامية، والتي وقعت في عهد عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، ومعاوية ابن سفيان رضي الله عنهم أجمعين.

والحقيقة التي لا مرية فيها الآن أن أغلب – إن لم يكن كل- من يطلقون على أنفسهم لقب الثقافة والتنوير حينما يتصدون للحديث عن التاريخ الإسلامي، وعن التراث الديني يكون معتمدهم الأساسي في التاريخ الإسلامي مبنيًا على هذا التاريخ الموازي الذي تركه أعداء الدولة الإسلامية الكبيرة- الدولة الأموية- التي تعتبر مرحلة مفصلية في نقل سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العالم كله، لما وقع فيها من حركة علمية كبيرة وفتوحات بلغت فيها أوج اتساع الدولة الإسلامية من تخوم الهند شرقًا إلى مشارف فرنسا غربًا.

فقد اجتمع على بني أمية الجيوش الجرارة من أعداء دولتهم الطامعين في الحكم من الخوارج وغيرهم، وكذلك الحاقدين على الإسلام وأهله خاصة من الموالي من الفرس الذين لم ينسوا زوال دولتهم على أيدي المسلمين، تجمع في وسط هذا الزخم الحاقد: الشعراء والمؤرخون ونقلة الأخبار والرواة الذين عملوا على بث الشائعات وافتعال الأكاذيب وتلفيق الاتهامات والروايات المزيفة وإلصاقها بالدولة الأموية، ورغم هذا كله، فقد وقف أهل السنة في مربع المدافع المثابر لنقض كل هذه التهم والافتراءات وتفنيدها ونقضها عروة عروة، حتى إنك لتعجب أن هناك عاقلا يفكر، يمكن أن يسير خلف هذه الروايات الملفقة.

ولأن العقلية التنويرية ثائرة بطبيعتها على الموروث الذي ثبت في العقل الجمعي السُني، الذي لا يقبل أبدا تلك الصورة المشوهة عن السلف وعن التراث الإسلامي بصفة عامة، فقد عمد المتنورن إلى الأخذ من المؤلفات التي وضعها هذا الفصيل عن الإسلام والمسلمين في هذه الحقبة التي لولاها لما وصل الإسلام صحيحا إلينا، باعتبار أن ذلك يتماشى مع نظرتهم الناقدة التي لا تقبل التقليد وتقدس العقل.

لذلك تجد مثلا أن محمد ابو ريدة قد اعتمد في هجومه على أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في كتابيه " شيخ المضيرة.. أبو هريرية" و"أضواء على السنة المحمدية" على آراء المعمّم الشيعي "عبدالحسين شرف الدين العاملي" في كتابه "أبو هريرة".

ومن الطريف هنا أنك إذا حاورت أحدهم في اية مسألة شرعية حتى لو ذكرت له أن صلاة العصر أربع ركعات لجادلك في ذلك وأعادك إلى مربع الخلاف بين على بن أبي طالب ومعاوية ابن أبي سفيان.
له بقية

التنوير الثقافة التشيع الاعتزال الاسلام السنة الوثيقة

الرأي الحر