الوثيقة
منوعات

عطش الذكاء الاصطناعي: إستهلاك هائل للمياه

الوثيقة

لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرّد تطبيق يظهر على شاشة الهاتف، أو روبوت محادثة يجيب على الأسئلة، أو ميزة لطيفة في مواقع التواصل. الواقع أبعد بكثير، وأعمق بكثير، وأثقل بكثير على موارد الكوكب. فخلف كل خطوة يقوم بها الذكاء الاصطناعي، تقف بنية تكنولوجية ضخمة تلتهم الماء والكهرباء بشكل قد يفاجئ حتى المتخصصين.

ورغم أن الحديث عن "عطش" الذكاء الاصطناعي يبدو للوهلة الأولى تعبيراً مجازياً، فإنّه في الحقيقة توصيفٌ دقيق لظاهرة تتنامى بصمت وتؤثر في البيئة، وربما في المستقبل القريب، في حياة البشر اليومية.

ما الذي يجعل الذكاء الاصطناعي يستهلك كل هذه المياه؟

تخيّل أن كل عملية تدريب لنموذج ذكاء اصطناعي ضخم تحتاج إلى آلاف الأجهزة التي تعمل في وقت واحد دون توقف. هذه الأجهزة تُنتج حرارة هائلة، ولو تُركت دون تبريد، لتلفت في ساعات أو حتى دقائق. وهنا تبدأ قصة المياه.

الخوادم التي تعمل 24 ساعة بحاجة إلى تبريد دائم

مراكز البيانات ليست مجرد صفوف من الكمبيوترات. هي منشآت صناعية كاملة تحتوي على أرفف طويلة من الخوادم، كل واحد منها يعمل بأعلى طاقته طوال الوقت. ومع كل عملية حسابية معقدة، ترتفع حرارة المعالج بشكل كبير، ما يستدعي تشغيل أنظمة تبريد تعتمد بشكل رئيسي على المياه.

ولهذا، تُضَخّ كميات هائلة من المياه الباردة داخل أنابيب تمر بين الخوادم، فتسحب الحرارة وتخرج ساخنة، ثم تُعاد معالجتها لتكرر الدورة من جديد. بعض المراكز تستخدم مكيفات ضخمة تعمل بالماء، وبعضها يُبخّر الماء لتقليل الحرارة، لكن النتيجة واحدة: الذكاء الاصطناعي لا يعمل بلا ماء.

كمية الماء التي تُستهلك ليست بسيطة… بل صادمة

تشير الدراسات الحديثة إلى أن تدريب نموذج واحد من فئة النماذج الكبيرة قد يستهلك ما بين 300 ألف إلى 700 ألف لتر من المياه. وهذه الكمية تكفي لتشغيل مصنع صغير لعدة أيام، أو لإمداد حيّ سكني كامل بالمياه لمدة أسبوع.

وفي بعض الدول التي تحتضن مراكز بيانات كبرى—مثل الولايات المتحدة وأيرلندا وهولندا—ارتفع استهلاك المياه إلى مستويات جعلت الحكومات تستجوب الشركات حول مصادر هذه المياه وتأثيرها على المجتمعات المجاورة.

المسألة لا تتوقف عند التبريد المباشر

الكهرباء التي تُشغّل مراكز البيانات نفسها تعتمد في كثير من الدول على محطات تحتاج إلى تبريد مائي. بمعنى آخر، كل واط كهرباء يستهلكه الذكاء الاصطناعي… وراءه ماء.
وبذلك يصبح الذكاء الاصطناعي مستهلكاً للمياه بشكل مباشر وغير مباشر، على نقيض ما يظنه المستخدمون العاديون.

لماذا الذكاء الاصطناعي “ليس مجرد بوت دردشة”؟

الكثيرون يتعاملون مع الذكاء الاصطناعي باعتباره أداة ترفيه أو "لعب"—يسأله سؤالاً فيرد، يطلب منه صورة فيصنعها. لكن ما يحدث في الخلفية معقّد جداً.

النماذج تُدرَّب على مليارات الكلمات والصور

تخيل مكتبة ضخمة تحتوي على تريليونات الكلمات، ملايين الصور، آلاف الكتب، وسنوات من البيانات. هذه البيانات تمر داخل مراكز التدريب، حيث تقوم الخوارزميات بمعالجتها مئات المرات حتى "تفهم" الأنماط.

هذا التدريب يستغرق أياماً أو أسابيع ويحتاج إلى مئات الخوادم، وكل خادم يحتاج تبريدًا مستمرًا، وكل تبريد يحتاج ماءً. لذلك، كل استجابة ذكية تظهر على الشاشة هي نتيجة منظومة بيئية ضخمة تعمل خلف الستار.

تشغيل النماذج أيضاً يستهلك الكثير

حتى بعد تدريب النموذج، تشغيله نفسه—سواء في الردود أو معالجة الصور أو توليد الصوت—يتطلب طاقة كبيرة. كل عملية تُعيد تشغيل جزء من تلك الخوادم، وبالتالي تدخل في دائرة التبريد مرة أخرى.

ما الذي يجعل هذا الأمر خطيراً على البيئة؟

الأمر ليس مجرد زيادة في استخدام المياه، بل التأثير يتجاوز ذلك إلى مستويات قد تمس استقرار مدن ودول.

مراكز البيانات باتت تنافس المزارع على المياه

في بعض المناطق، اشتكى المزارعون من أن مصانع التكنولوجيا تستنزف المياه الجوفية، ما أدى إلى تقليل كميات الري. وفي ولايات أمريكية، زادت أسعار الماء المحلّي بسبب سحب مراكز البيانات ملايين الجالونات يوميًا.

المياه المستخدمة غالباً تُهدر دون إعادة تدوير كاملة

عدد كبير من مراكز البيانات يستخدم الماء بشكل لا يسمح بإعادة تصفيته بالكامل، ما يضع ضغطاً إضافياً على الموارد المائية.
وفي الدول ذات المناخ الحار، تُستخدم المياه بمعدلات أكبر لأن الحرارة تحتاج إلى تبريد إضافي.

زيادة الطلب العالمي على الذكاء الاصطناعي تعني زيادة الضغوط

كلما زادت نماذج الذكاء الاصطناعي، وتوسعت الشركات في تقديم خدمات جديدة، زاد عدد مراكز البيانات، وبالتالي زاد الاستهلاك بشكل هندسي لا خطي.
والنمو المتوقّع في السنوات القادمة قد يجعل صناعة الذكاء الاصطناعي واحدة من أكبر مستهلكي المياه عالميًا.

هل من حلول؟ أم أننا مقبلون على أزمة رقمية–بيئية؟

الشركات الكبرى بدأت تشعر بالضغط، وبدأت تبحث عن بدائل.

1. الاعتماد على التبريد الهوائي

بعض الشركات بدأت في استخدام التبريد بالهواء بدلاً من الماء، خصوصاً في المناطق الباردة. لكن هذه التقنية لا تزال غير مناسبة للنماذج الضخمة التي تحتاج تبريداً أكثر فعالية.

2. استخدام مياه غير صالحة للشرب

هناك توجه لاستخدام مياه معالجة وليس مياه عذبة، لتقليل الضغط على الشبكات العامة، لكن هذا يتطلب تجهيزات إضافية.

3. نقل المراكز إلى أماكن قريبة من الطبيعة

مثل وضع مراكز بيانات تحت البحر أو قرب الأنهار، لتقليل استهلاك المياه الصناعية. لكنها حلول مكلفة وتحتاج إلى تكنولوجيا عالية.

4. تطوير شرائح أقل استهلاكاً للطاقة

الجيل القادم من شرائح الذكاء الاصطناعي قد يقلل الحرارة وبالتالي يقلل الحاجة للتبريد.

ختاماً: الذكاء الاصطناعي ليس بلا ثمن

ورغم الفوائد الهائلة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي، يبقى السؤال البيئي مطروحاً بقوة:
هل نحن مستعدون لدفع فاتورة مائية وكهربائية بهذا الحجم؟

فالعالم يتجه إلى مزيد من الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، ومع هذا التوسع، يجب أن ترافقه سياسات واضحة للحد من استهلاك الموارد وحماية البيئة.
فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية… بل صناعة كاملة تحتاج إلى حوكمة رشيدة قبل أن تتحول إلى عبء على كوكب يعاني أصلاً من ندرة المياه وتغير المناخ.

شات جي بي تي chatGPT الذكاء الاصطناعي المياه الطاقة البيئة

منوعات

الفيديو