الوثيقة
الرأي الحر

تقديس الفكر الديني بين الحقيقة والافتراء

الوثيقة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الرسلين وخاتم الأنبياء ، وسيد الصالحين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين .
وبعد
فعلى مدار تاريخ الإسلام الطويل ، ومنذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، قامت الحملات التي تهدف إلى التشكيك في ثوابت الدين ، والنيل من أعلام هذه الأمة الذين كان لهم الفضل الكبير في تحقيق تقدمها ورقيها ، وفي العصر الحديث وجدت تلك المحاولات ، إلا أنها اتسمت بالشراسة والقوة ، وظهر أن هدفها الرئيس ليس فقط هو تشكيك المسلمين في دينهم ، وإنما إثناء المسلمين وإبعادهم عن دينهم ، وصارت تلك الحملات في الأيام الأخيرة حملات منظمة ، يقودها فريق من الإعلاميين الذين لا علاقة لهم بالعلوم الشرعية ، يقودون حملة شرسة لجعل الناس يتمردون على كل ما هو إسلامي ، مدعين أن الإسلام دين يحجر على العقل ، ويستهزأ بالعقول .
استخدام مصطلح التقديس لتضليل المسلمين :
يلجأ المشككون في الإسلام وثوابته إلى استخدام مصطلحات تشعر بشيء من القهر والاستبداد ، كل ذلك بهدف أن يشعر المسلم أنه مقهور على اتباع دينٍ قد تخالف قواعده المنطق السليم ، وأنه دين يحارب العقل ، ويجعله تابعا ، وليس له الحق حتى في مجرد إبداء الرأي .

ولكن الحقيقة التي لا يماري فيها أحد أن علماء الإسلام القدامى والمحدثين لم يستخدموا مصطلح التقديس ، إذ إننا كمسلمين ليس عندنا تقديس ، بل الذي عندنا هو الاتباع والامتثال للأوامر الإلهية والتعاليم النبوية ، أما هذا المصطلح فيستخدم عند بعض أرباب الديانات الأخرى .
والاتباع الذي نظمه الإسلام ، إنما هو أمر يحتاج إلى شيء من التفصيل والإيضاح ، فأقول :
النصوص في شريعة الإسلام نوعان :
الأول : نصوص قاطعة : وهي ما تدل بلفظها ومعناها على أمرٍ لا تأويل فيه ، وهذه النصوص أوجب الإسلام اتباعها ، وعدم المساس بها ، لأن هذه النصوص تتعلق بثوابت ومبادىء لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال التلاعب بها ، فمجرد التفكير في المساس بها يزلزل حياة العباد ، ويقودنا إلى الهاوية ، ويمثل لذلك بالنصوص التي تحفظ على العباد الضروريات الخمس ، كالنصوص المتعلقة بتحريم القتل ، وتحريم الاعتداء على الأموال ، والنصوص التي تدعو إلى حفظ العقل ، والنصوص التي تنهي عن الزنا وارتكاب الفواحش وحفظ الأعراض ، فهذه نصوص لا ينبغي لأي عاقلٍ أن يحيد عنها ، أو يتأول فيها .
الثاني : النصوص الظنية : وهي النصوص التي تحتمل تأويلاً من قبل العلماء ، وهذا النوع من النصوص هو المجال الخصب لإعمال العقول ، والولوج في باب الاجتهاد ، وفق ما يراه المجتهد ، وحسبما يحقق مصالح الناس ، فالمفتي أو المجتهد متقيد بما يحقق مصالح العباد ، لأن الشريعة الإسلامية ليست وسيلة تضع القيود والعراقيل أمام تحقيق الناس لرغباتهم ، شريطة أن تكون هذه الرغبات وتلك الأهداف موافقة لقواعد الشريعة الإسلامية .
أضف إلى ذلك أن هناك بعض الأمور التي تركت من غير إلزام ، وما كان تركها نسياناً ، لأن الله تعالى لم يكن لينسى ، قال تعالى " وما كان ربك نسيا " وإنما كان ذلك لترك حرية للعلماء في ملىء هذا الفراغ وفقاً لظروف ومصالح مجتمعهم .
يقول الدكتور القرضاوي: إنه رحمة بنا غير نسيان.. ليملأ المجتهدون هذا الفراغ وفق مصالح مجتمعهم، وظروف عصرهم، دون أن يجدوا من النصوص المفصلة ما يقيدهم، أو يعوق مسيرتهم….. معظم الأحاديث النبوية ظنية الثبوت ، ومعظم نصوص القرآن والسنة ظنية الدلالة ، فوجود النص لا يمنع الاجتهاد كما يتوهم واهم ، بل تسعة أعشار النصوص أو أكثر قابل للاجتهاد وتعدد وجهات النظر، حتى القرآن الكريم ذاته يحتمل تعدد الأفهام في الاستنباط منه
ويقول ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين موضحاً هذا الأمر أيما وضوح : " الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا؛ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ الْعَدْلِ إلَى الْجَوْرِ، وَعَنْ الرَّحْمَةِ إلَى ضِدِّهَا، وَعَنْ الْمَصْلَحَةِ إلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنْ الْحِكْمَةِ إلَى الْبَعْثِ؛ فَلَيْسَتْ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ؛ فَالشَّرِيعَةُ عَدْلُ اللَّهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَظِلُّهُ فِي أَرْضِهِ، وَحِكْمَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَمَّ دَلَالَةً وَأَصْدَقُهَا، وَهِيَ نُورُهُ الَّذِي بِهِ أَبْصَرَ الْمُبْصِرُونَ، وَهُدَاهُ الَّذِي بِهِ اهْتَدَى الْمُهْتَدُونَ، وَشِفَاؤُهُ التَّامُّ الَّذِي بِهِ دَوَاءُ كُلِّ عَلِيلٍ، وَطَرِيقُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي مَنْ اسْتَقَامَ عَلَيْهِ فَقَدْ اسْتَقَامَ " .

ننتهي من ذلك إلى أن مصطلح التقديس من المصطلحات التي لا يعرفها الإسلام .
واستخدم المشككون في الإسلام جملة أمور تأييداً لوجهة نظرهم أهمها محاولة التنصل من الفكر القديم ، بل الرغبة الواضحة في القضاء على هذا الفكر ، بل وإحراقه على حد قول من يتبنون تلك الحملة الشعواء ، فلم يعد هذا الفكر من وجهة نظرهم صالحاً لأن نسير وفقه ما هو مقرر في هذا الزمان .
ولكن هذا الأمر وتلك الدعوات خالفت المنطق قولاً واعتقاداً ، فما كان لأمةٍ أن تتخلى عن تراثها ، وتتنصل منه ولا تعتمد عليه ، ولا تستفيد منها ، لاسيما وأن التراث الإسلامي تراث ذاخر ، استفاد منه غير المسلمين ، كيف لأمة بدعوات مغرضة أن تلغي فكرها وهويتها ، فهوية الأمة بهوية علمائها .
بل وتعالت الأصوات منددة بالفكر الإسلامي القديم الذي ورثناه عن الفقهاء ، إذ ترى تلك الأصوات في هذا الفكر خراب العالم ، ودعوة للتحريض على القتل ، وبث العنف والكراهية بين بني البشر .
والفكر الإسلامي بريء من تلك الدعوات براءة الذئب من دم ابن يعقوب ، فما كان لعلماء الإسلام أن يعيدوا البشرية إلى الخراب والدمار بعد أن أخرجها محمد صلى الله عليه وسلم من ظلام الجهل والإباحية إلى نور الإيمان والعدل والمساواة .
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أمور :
أولها : إن الفقهاء القدامى صاغوا بعض الأحكام الفقهية ، بما يتناسب مع عصرهم وظروف مجتمعهم ، وبالتالي كانت تلك المجتمعات في حاجة إلى تلك الأحكام لا غيرها من وجهة نظرهم ، بدليل صلاح المجتمعات بتلك الأحكام ، وهذا في ذاته يجعل هؤلاء الفقهاء مبدعين أيما إبداع ، لأنهم وضعوا من الأحكام ما يتناسب مع الواقع ، وحققت تلك الأحكام مصلحة الناس .
الثاني : إن كلام الفقهاء القدامى ليس شرعاً ملزما واجب الاتباع ، وإنما هم بشر يؤخذ منهم ويرد عليهم ، لأن كل بشر يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما قرره الفقهاء أنفسهم ، يقول أبو حنيفة شيخ الفقهاء : " ما جاء عن رسول الله فعلى الرأس والعين بأبي وأمي ، وليس لنا مخالفته ، وما جاء عن أصحابه تخيرنا ، وما جاء عن غيرهم فهم رجال ونحن رجال "
وقال الإمام الشافعي رحمه الله : " قولي صواب يحتمل الخطأ ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب " .
تلك هي أقوالهم أنفسهم ، وإن في أقوالهم لدليل دامغ لا يقبل الجدل على أنهم لا يرون أبدا تقديس أقوالهم ، بل يجعلون أقوالهم عرضة للنقد البناء والنقاش الهادف .
الثالث : لم يمنع أحد من الفقهاء – القدامى والمحدثين – من تغير الحكم الشرعي ليساير الواقع ، حيث قرر العلماء أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والشخص ، فلم يعب أحد على الشافعي تغيير مذهبه لما قدم إلى مصر ، وكانت معه حجته ، حيث رأى أن عادات أهل مصر تختلف عن عادات أهل العراق ، فكان ذلك مبرراً لتغيير الأحكام التي قررها في العراق .
الرابع : من الخصائص التي اختصت بها الشريعة الإسلامية الشمول ، أي أنها شملت بين جنباتها تنظيم كل ما يخص الإنسان في حياته ، ومن خصائصها كذلك المرونة ، فلم تقف الشريعة يوما ما حجر عثرة أمام أي تقدم شريطة أن يكون هذا التقدم محققاً لمصالح العباد ، ولا يخالف نصاً شرعياً .
الخامس : القول بأن الإسلام يريد أن يكون هو الدين الأوحد وما سواه إلى زوال قول مغلوط ، والدليل على ذلك تلك الأحكام التي قررها الإسلام في التعامل مع غير المسلمين ، فقد نظم الإسلام معاملتهم بطريقة راقية لم ولن تصل إليها القوانين الوضعية على مر الزمان ، حيث قرر الإسلام قواعد ذهبية في هذا المضمار ، أهمها " لا إكراه في الدين " فيبقى غير المسلم على دينه في دولة الإسلام ، ولا يجبر على الدخول في الإسلام ، بل ترك لهم الحرية الكاملة في الدخول في الإسلام ، أو البقاء على دينهم ، وقرر النبي صلى الله عليه وسلم قاعدةً ذهبية في معاملة غير المسلمين ، تلك القاعدة التي تضمن لهم الأمن والأمان ، والاطمئنان على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وممتلكاتهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : لهم ما لينا وعليهم ما علينا ، وحرم الإسلام الاعتداء عليهم بأي نوع من أنواع الاعتداء ، فلو كان الإسلام يريد إبادة الآخر ما قررت تلك الأحكام ، ولما اهتم الفقهاء بتنظيمها وفق هذا التنظيم المحكم .

* أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بالدقهلية

الفكر الديني الإسلام التقديس الوثيقة

الرأي الحر