تقرير خاص: صعود “الإنترنت الميت”.. هل تحوّلت الشبكة إلى نظام ذاتيّ يعمل بلا بشر؟
منذ نشأة الإنترنت الحديثة في منتصف التسعينيات، اعتُبرت الشبكة فضاءً نابضًا بالحياة؛ منصة يتحرك فيها البشر، الأفكار، الإبداع، التفاعل الاجتماعي، والتجارب التي لا يمكن العثور عليها في أي مكان آخر. غير أن السنوات الأخيرة شهدت تحوّلًا مقلقًا دفع مجموعة من الباحثين والمحللين إلى الحديث عمّا يسمى “الإنترنت الميت” Dead Internet: وهو مفهوم يشير إلى أن جزءًا كبيرًا مما نراه ونتفاعل معه على الشبكة لم يعد بشريًا.
وبحسب هذا الاتجاه الفكري، الذي بدأ كفرضية نظرية ثم أصبح مادة للبحث والتحقيق، فإن الإنترنت يتجه نحو لحظة يصبح فيها محتواه—بل وسلوكه—نتاج أنظمة تلقائية، روبوتات، وذكاء اصطناعي، أكثر مما هو نتاج مستخدمين حقيقيين. ومع الانتشار المذهل لبرامج الذكاء الاصطناعي التوليدي، ارتفع السؤال الأكثر إثارة للذعر:
هل ما زال البشر هم المحرك الرئيسي للإنترنت، أم أننا فقدنا السيطرة؟
في هذا التقرير، نعرض صورة شاملة وموسّعة حول الظاهرة، من خلال تحليل البيانات، رصد سلوك المنصات الرقمية، تتبع حملات إزالة الحسابات المزيفة، وإبراز الدور المتنامي للذكاء الاصطناعي في تشكيل بيئة رقمية “حية شكليًا… ميتة مضمونًا”.
الفصل الأول: شبكة لم تعد بشرية – كيف تحوّل الإنترنت إلى مستعمرة بوتات؟
عند الحديث عن البوتات Bots، لم يعد الأمر مقتصرًا على برامج بسيطة تنشر روابط أو رسائل مزعجة. المشهد تغيّر جذريًا. تشير تقديرات عدة مراكز تحليل بيانات دولية إلى أن ما بين 47% و65% من حركة الإنترنت اليوم ليست بشرية.
هذه الأرقام تشمل:
بوتات الزحف الخاصة بمحركات البحث
أنظمة تلقائية للنشر
روبوتات تفاعل اجتماعي
حسابات مدعومة بالذكاء الاصطناعي
شبكات محتوى آلية تعمل 24/7
لكن الأخطر من ذلك هو الانتقال من البوتات التقليدية إلى البوتات “الواعية بالسياق”—أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على كتابة نصوص واقعية، تقليد الرأي العام، والخوض في نقاشات كاملة دون أن تُكتشف بسهولة.
منصات مثل X (تويتر سابقًا) و فيسبوك و إنستغرام و تيك توك أعلنت خلال الأعوام الثلاثة الماضية أنها حذفت:
أكثر من 1.6 مليار حساب مزيف في ربع واحد فقط (Meta, 2023)
حوالي 500 مليون حساب على X خلال إعادة هيكلة 2024
أكثر من 600 مليون حساب “غير بشري” رصدتها Google في خدماتها
ومع ذلك، يعترف خبراء الأمن الرقمي بأن هذه الأرقام جزء صغير فقط من المشكلة الحقيقية، وأن موجات جديدة من الحسابات المدعومة بالذكاء الاصطناعي تظهر باستمرار بسرعة تفوق عمليات الحذف.
النتيجة؟
الإنترنت أصبح مزدحمًا بكائنات رقمية تتفاعل، تتشاجر، تُعلّق، تُحلل، وتُنشئ محتوى… دون أي إنسان خلف الكواليس.
الفصل الثاني: المحتوى لم يعد جديدًا… الذكاء الاصطناعي يعيد تدوير نفسه
أحد أخطر مظاهر “الإنترنت الميت” هو التكرار المعلوماتي.
فمع توسع الذكاء الاصطناعي التوليدي، أصبح هناك انفجار هائل في كمية المحتوى المنشور يوميًا. إلا أن الجانب المظلم لهذا الانفجار هو أنه ليس إنتاجًا جديدًا بالكامل.
بل هو “محتوى معاد تدويره”—نصوص تولّدها نماذج ذكاء اصطناعي استنادًا إلى بيانات مُستخرجة من محتوى أصلاً أنتجه ذكاء اصطناعي آخر، وهكذا في سلسلة لا نهائية.
يشبه الأمر عملية Photocopy of a photocopy—كل نسخة أقل وضوحًا من السابقة.
هذا التكرار يخلق مخاطر حقيقية:
تآكل المعرفة البشرية الأصلية
تشوّه المعلومات عبر إعادة صياغة بيانات دون مصدر أصلي
تضخم هائل في “الضوضاء المعلوماتية”
اختفاء المساهمات البشرية التي كانت تمنح الإنترنت تنوعًا وإبداعًا
وتحذر مؤسسات بحثية، ومن ضمنها MIT وCornell، من أن استمرار هذه الموجة سيحول الإنترنت إلى أرشيف ضخم مليء بمنتجات ذكية تعيد تدوير بعضها البعض… بينما يختفي المحتوى البشري من المشهد تدريجيًا.
الفصل الثالث: السوشيال ميديا… مجتمعات حقيقية في ظاهرها، ميتة تمامًا في عمقها
العديد من منصات التواصل الاجتماعي أصبحت اليوم أقرب إلى مدن رقمية أشباح—من الخارج تبدو مزدحمة، لكن من الداخل تعجّ ببوتات تفاعلية تتقمّص دور البشر.
كيف نعرف ذلك؟
البيانات العامة تعطي لمحة مخيفة:
1. فيسبوك
أعلنت Meta في تقارير رسمية أن نسبة الحسابات “غير الأصلية” كانت في بعض الفترات تصل إلى 21% من إجمالي المستخدمين النشطين.
2. X (تويتر سابقًا)
تقارير مستقلة (Botometer – Indiana University) قدّرت أن:
ما بين 30% إلى 40% من الحسابات النشطة على المنصة يمكن أن تكون بوتات.
3. تيك توك
أبحاث جامعة جورج واشنطن أظهرت أن:
حوالي 40% من التعليقات في ترندات محددة كانت من حسابات أوتوماتيكية.
4. يوتيوب
أكثر من 55% من المشاهدات على بعض المقاطع تأتي من مصادر غير بشرية (تقديرات شركات تحليل Traffic).
ومع ظهور الذكاء الاصطناعي المحادثي والرسومي والصوتي، لم تعد هذه البوتات مجرد حسابات صامتة.
بل أصبحت:
تنشر
تحلل
توجه الرأي العام
تبني شبكات
تُنتج فيديوهات
تُشارك في الحملات الإعلامية
وتقدّم نفسها كأشخاص عاديين
هنا يظهر السؤال الأكثر إثارة للرعب:
كم من النقاشات التي نخوضها عبر الإنترنت تتم بالفعل مع بشر؟
الفصل الرابع: “مكتبة البشر” في خطر… الذكاء الاصطناعي يأكل مصادره الأساسية
لطالما كان الإنترنت أكبر مكتبة أنشأتها البشرية—مليارات من الصفحات، الأبحاث، الصور، التجارب الشخصية، النقاشات، والكتب.
لكن هذه المكتبة باتت اليوم مهددة ليس بالحذف بل بالإغراق.
فعندما تملأ الشبكة موجات لا نهائية من المحتوى التوليدي المعاد تدويره، يصبح الوصول إلى المعلومات البشرية الأصلية أصعب يومًا بعد يوم.
الذكاء الاصطناعي يحتاج مصادر بشرية ليتطور… لكنه الآن يعيد تدوير نفسه لدرجة أن:
قواعد البيانات أصبحت مشوهة
“نوعية” المعرفة انخفضت
وتم استبدال الخبرات البشرية الحقيقية بخيارات توليدية أقل فائدة
هذا ما سمّاه الباحثون في جامعة Stanford:
“تلوث البيانات Data Pollution”
وهو تلوث قد يقود إلى انهيار الجودة المعرفية للذكاء الاصطناعي نفسه في المستقبل، لأن النظام سيستمر بالتعلم من بيانات مصطنعة بدلاً من تجارب بشرية واقعية.
الفصل الخامس: لو انقرض البشر… سيستمر الإنترنت وحده
هذه النقطة ليست خيالية كما تبدو.
مع وجود ملايين البوتات الفاعلة، وأنظمة الذكاء الاصطناعي المستقلة، يمكن للإنترنت أن يستمر نظريًا في:
نشر المحتوى
التفاعل
إدارة المحادثات
إنتاج المقالات
خلق صور وفيديوهات
إعادة بناء نفسه أوتوماتيكيًا
حتى دون وجود بشر على الإطلاق.
مشهد يشبه أفلام الخيال العلمي:
“حضارة كاملة من الكائنات الرقمية تواصل العيش والتواصل بعد اختفاء الجنس البشري.”
وبحسب عدة دراسات، يمكن للإنترنت أن يظل حيًا—شكليًا—ما دام هناك:
كهرباء
خوادم
أنظمة توليد المحتوى
لكن “الحياة” هنا ليست حياة بشرية.
بل حركة آلية بلا روح—شبكة تكرر نفسها بلا نهاية.
الفصل السادس: ماذا يعني ذلك لمستقبلنا؟
هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
1. انهيار تدريجي في جودة الإنترنت
مع مرور الوقت، يتحول الإنترنت إلى أرشيف ضخم من المحتوى الضعيف المعاد تدويره.
2. انفصال الإنسان عن الشبكة
يلجأ المستخدمون إلى “جيوب رقمية بشرية”—منصات صغيرة بعيدة عن الضوضاء الآلية.
3. تكامل تسلسلي يجعل الذكاء الاصطناعي هو المحرك الرئيسي للمعرفة البشرية
وهو السيناريو الأكثر خطورة، لأن البيانات الأصلية ستختفي لصالح دفق مستمر من إنتاج الآلات.
الخلاصة
“نظرية الإنترنت الميت” لم تعد مجرد خيال أو مؤامرة.
ما نراه اليوم—من هيمنة البوتات، انتشار الذكاء الاصطناعي التوليدي، التكرار المعرفي، وانخفاض المحتوى البشري—هو مؤشر واضح على أن الإنترنت في 2025 أصبح أكثر اصطناعية من أي وقت مضى.
وإن لم يتحرك العالم لضبط بيئة الشبكة، فقد نستيقظ في يوم ما لنكتشف أن البشر أصبحوا زوارًا لا أكثر… في شبكة تتحكم فيها خوارزميات تنشئ محتوى لأجل نفسها، وتتفاعل مع نفسها، وتعيش في عالم رقمي لا يحتاج إلينا أبداً.
































