حين تتقاطع الثقافة والسياسة.. أزمة في متحف حضارات أروبا والبحر المتوسط بمارسيليا بسبب فلسطين
وجد متحف حضارات أوروبا والبحر الأبيض المتوسط (MuCEM) في مدينة مرسيليا الفرنسية نفسه فجأة في قلب جدل سياسي حاد، بعد قراره إنهاء شراكة رعاية تاريخية مع شركة «ديجيتال ريالتي» الأمريكية، في خطوة أعادت الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني إلى الواجهة داخل الفضاء الثقافي الأوروبي، وأثارت انقسامًا واسعًا بين من يعتبرها موقفًا أخلاقيًا، ومن يراها انزلاقًا سياسيًا خطيرًا بحسب ضحيفة le_Parisien الفرنسية.
ويقع المتحف، وهو المتحف الوطني الوحيد في فرنسا خارج باريس، على ممشى J4 عند مدخل الميناء القديم لمرسيليا، وافتُتح عام 2013 تزامنًا مع اختيار المدينة عاصمةً للثقافة الأوروبية. ومنذ تأسيسه، مثّل المتحف منصة للحوار بين حضارات ضفتي المتوسط، جامعًا بين البعد الأوروبي والعمق العربي والمتوسطي.
غير أن هذا الدور الثقافي وجد نفسه هذه المرة محاصرًا بتجاذبات سياسية، بعدما أعلنت إدارة المتحف عدم تجديد اتفاقية الرعاية مع شركة «ديجيتال ريالتي»، أحد الداعمين المؤسسين له، والتي تدير عدة مراكز بيانات في ميناء مرسيليا. وجاء القرار عقب اتهامات وجهتها منظمات حقوقية فلسطينية للشركة بالارتباط بشركة إسرائيلية تنشط في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك الضفة الغربية وهضبة الجولان.
وقد شهد محيط المتحف خلال الصيف الماضي مظاهرتين نظّمتهما جمعيات مؤيدة للقضية الفلسطينية، طالبت بقطع أي علاقة بين المؤسسة الثقافية وأي جهات يُشتبه في دعمها للاحتلال الإسرائيلي. ورحّبت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) بالقرار، واعتبرته «انتصارًا كبيرًا» بعد أشهر من الضغط والتعبئة.
من منظور عربي، يعكس هذا التطور اتساع نطاق تأثير القضية الفلسطينية داخل المجتمعات الغربية، حيث لم تعد محصورة في المجال السياسي أو الإعلامي، بل امتدت إلى المؤسسات الثقافية والفنية، التي باتت مطالَبة بإعادة النظر في مصادر تمويلها وشراكاتها، تحت ضغط الرأي العام والمنظمات الحقوقية.
لكن القرار فجّر في المقابل ردود فعل غاضبة من مسؤولين محليين في جنوب فرنسا، خاصة مع اقتراب الانتخابات البلدية في مرسيليا. فقد أعلن كل من رينو موسيليه، رئيس منطقة بروفانس–ألب–كوت دازور، ومارتين فاسال، رئيسة مقاطعة بوش دو رون ومرشحة المعارضة لرئاسة بلدية مرسيليا، تعليق جميع أشكال التعاون مع المتحف، والمطالبة بعقد اجتماع طارئ لمجلس إدارته.
وبرر المسؤولان موقفهما بالقول إن القرار اتُخذ «تحت ضغط جهات يسارية متطرفة تسعى إلى استيراد الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني إلى فرنسا»، مؤكدين رفضهما «أي مساومة مع معاداة السامية أو العنصرية» داخل المؤسسات التي تمولها السلطات المحلية. ويعكس هذا الخطاب حساسية شديدة في المشهد السياسي الفرنسي، حيث غالبًا ما يجري الخلط بين انتقاد سياسات إسرائيل واتهامات معاداة السامية.
وتزداد أهمية هذا الخلاف بالنظر إلى أن المتحف، رغم خضوعه إداريًا لوزارة الثقافة الفرنسية، يعتمد جزئيًا على دعم السلطات المحلية، التي ساهمت بتمويله على مدى سنوات، ولها تمثيل في مجلس إدارته وإن كان دون حق التصويت.
وفي خضم هذا التصعيد، اختارت إدارة المتحف وشركة «ديجيتال ريالتي» التزام الصمت الإعلامي، مكتفيتين ببيان مشترك مقتضب أكد أن إنهاء الشراكة تم «باتفاق متبادل»، بهدف تمكين المتحف من مواصلة أداء مهامه الثقافية «في أجواء هادئة».
بالنسبة لكثير من المتابعين العرب، تكشف هذه الأزمة عن مأزق أوروبي متزايد: كيف يمكن للمؤسسات الثقافية أن تدّعي الحياد، بينما تتقاطع القيم التي ترفعها كالعدالة وحقوق الإنسان مع واقع سياسي تتورط فيه قوى اقتصادية كبرى؟ كما تعكس في الوقت نفسه نجاح الرواية الفلسطينية في اختراق ساحات جديدة، لم تعد تقتصر على الشارع أو الخطاب السياسي، بل باتت تؤثر في قرارات مؤسسات ثقافية عريقة داخل قلب أوروبا.

.png)

































