الوثيقة
تحقيقات وتقارير

هشاشة الإنترنت – إنذار حقيقي في قلب البنية التحتية الرقمية

الانترنت
الانترنت

في عصر تتسارع فيه الرقمنة وتتداخل فيه حياتنا اليومية مع الفضاء الرقمي، بدا لنا الإنترنت كشبكة لا تنكسر، قاعدة ثابتة تعتمد عليها المؤسسات، الأفراد، والاقتصاد. لكن الواقع الأخير يفضح هشاشة كبيرة في هذه البنية التحتية: تعطل في خدمة واحدة، تحديث بسيط، أو مشكلة تقنية في شركة كبيرة يمكن أن يخلخل أجزاء واسعة من الإنترنت ويؤثر على ملايين المستخدمين. هذه الهشاشة ليست مجرد تهديد نظري؛ إنها وليدة اعتماد متزايد على عدد محدود من الشركات المزودة للبنية التحتية، وعلى أتمتة التقنية وربطها ببعضها البعض بطريقة تُعتبر محفوفة بالمخاطر.

هذا التقرير يستعرض بعمق ظاهرة انقطاعات الإنترنت الكبرى التي كشفت ضعف الشبكة العالمية، ويُسلّط الضوء على ثلاثة أمثلة بارزة أثّرت على ملايين: Cloudflare، Starlink، وCrowdStrike. كما يُقدّم تحليلاً للتهديدات الحالية، تبعاتها، وما يمكن فعله للحد من المخاطر في المستقبل.

ما هي هشاشة الإنترنت؟ لماذا نتحدث عنها الآن؟


الهشاشة في هذا السياق تعني مدى ضعف الاعتماد على البنية التحتية الرقمية من حيث المصداقية (Reliability) والتكرار (Redundancy). بعبارة أخرى، عندما تكون شبكة الإنترنت أو بعض طبقاتها الأساسية مرتكزة على عدد محدود من الشركات أو الخدمات، فإن أي خلل في موقع واحد يمكن أن ينتشر تأثيره إلى أجزاء كبيرة من الشبكة.

في السنوات الأخيرة، تكاثرت التحذيرات من باحثين وأكاديميين حول مخاطر الاعتماد على مزودات خدم الطرف الثالث (Third-Party Providers) دون تنويع كافٍ. دراسات أكاديمية مثل ورقة Aqsa Kashaf وآخرون (2018) أشارت إلى أن 73٪ من الخدمات الرقمية تعتمد على خدمات خارجية، وأن سقوط أحد مقدّمي الخدمات الكبرى قد يعرّض 25٪ إلى 46٪ من المواقع الأكثر استخدامًا لخطر التوقف الكامل.


أيضًا، تقرير شامل حول انقطاعات الخدمات السحابية عام 2013 أكد على عدم وجود “زمن انقطاع صفر” في العالم الحقيقي، وأن المنصّات السحابية تحتاج إلى استراتيجيات قوية للحد من انقطاعاتها.

ما بين هذه الأبحاث الواقعية والحوادث التي نشهدها، يتضح أن الحديث عن هشاشة الإنترنت ليس تخويفًا جامدًا، بل إنذارًا عمليًا لمخاطر متنامية تؤثر على الأفراد والمؤسسات والحكومات.

مثال 1: عطل Cloudflare (18 نوفمبر 2025)


من أبرز الأمثلة الحديثة على هشاشة الإنترنت حادثة انقطاع كبير لشبكة Cloudflare يوم 18 نوفمبر 2025. Cloudflare هي شركة بنية تحتية تمثّل حجرًا أساسيًا في خدمات الإنترنت الحديثة؛ فهي تقدم خدمات CDN (توزيع المحتوى)، حماية ضد هجمات DDoS، وحلول الأمان الأخرى، وتدعم نحو 20٪ من المواقع على الإنترنت.

ما حدث بالتفصيل:


في حوالي الساعة 11:20 UTC، بدأت فوضى في خوادم Cloudflare، حيث ارتفع حجم ملف تكوين داخلي (feature file) مسؤول عن إدارة حركة التهديدات (Threat Traffic) إلى ضعف حجمه المتوقع مما أدى إلى تحطّمه.

هذا الخطأ البرمجي سبّب أخطاء HTTP من نوع 5xx، أي أخطاء خادم داخلية، وأدى إلى توقف أو بطء شديد في الوصول إلى مواقع مهمة مثل X (تويتر)، ChatGPT من OpenAI، Spotify، Canva، وغيرها.

حتى لوحة تحكم Cloudflare نفسها تأثّرت: بعض المستخدمين لم يتمكنوا من تسجيل الدخول مؤقتًا.

أقرّ مسؤولو Cloudflare بأن السبب لم يكن هجومًا سيبرانيًا، بل خلل في قائمة التكوين الخاصة بإدارة البوتات، وبعد استبدال الملف التالف بحجمه الأصلي تمّ استرجاع النظام تدريجياً بحلول حوالي الساعة 14:30 UTC، واستُكملت عملية المراقبة حتى نحو 17:06 UTC.

وقد عبّرت الشركة في بيان رسمي عن ندَمها العميق: “أي انقطاع من شبكتنا غير مقبول… نعلم أننا خذلناكم اليوم.”

تبعات الحادثة:


أظهر الحدث مدى اعتماد العالم على Cloudflare كشريان أساسي للبنية التحتية للويب؛ فبان أن خللاً بسيطًا في تكوين داخلي يمكن أن يزعزع أجزاء كبيرة من الإنترنت.

أثار تساؤلات واسعة حول مدى تنويع البنية التحتية للشركات الأخرى: هل من الضروري أن تعتمد المواقع الكبرى على مزود واحد فقط؟

دفع بعض محللي التكنولوجيا إلى الدعوة إلى “إعادة توزيع البنية التحتية” بحيث لا تكون الشركات الكبرى محتكرة الأساسيات مثل DNS أو CDN أو الجدران النارية.

مثال 2: عطل CrowdStrike في تحديث أمني (يوليو 2024)


حالة أخرى لا تقل خطورة، وهي عطل كبير في نظام أمني من CrowdStrike، الشركة المعروفة في مجال الحماية السيبرانية. في 19 يوليو 2024، أصدرت CrowdStrike تحديثًا لبرنامج Falcon Sensor الخاص بها، لكن التحديث لم يكن محكومًا كما ينبغي، مما أدى إلى فشل في الذاكرة (memory fault) وبرمجة خاطئة تسبّب في انهيار أنظمة Windows التي تعتمد على هذا البرنامج.

تفاصيل التأثير:


أثر العطل على أكثر من 8 ملايين جهاز كمبيوتر يعمل بنظام Windows؛ أبلغت شركات الطيران، المستشفيات، البنوك، مكاتب الحكومة، وغيرها من الجهات عن توقف أنظمتها. Wikipedia

شركة دلتا إيرلاينز اضطرت إلى إلغاء مئات الرحلات بسبب توقف أنظمتها التشغيلية المرتبطة بالسلامة والخدمات الرقمية.

تم التراجع عن التحديث خلال أقل من ساعة تقريبًا، لكن الأضرار الصحيّة والاقتصادية كانت كبيرة، وأثّرت على ثقة المستخدمين في التحديثات الأمنية للشركات الكبيرة.


تحديث أمني حتى لو هدفه الحماية، إذا لم يكن محكمًا يمكن أن يتحوّل إلى سلاح ذو حدين: يعرّض البنية التحتية للخطر بدلاً من حمايتها.

الشركات التي توفر الحماية للأخرى (مثل CrowdStrike) لا تتحمّل فقط مسؤولية الحماية من الهجمات، بل أيضًا مسؤولية الاستقرار؛ أي “تحديثاتهم لا يجب أن تفشل”.

مثال 3: انقطاع Starlink (شبكة الإنترنت الفضائية) عبر خدمة سبيس إكس (يوليو 2025)


تجربة ثالثة تكشف جانبًا آخر من هشاشة الإنترنت، وهي الاعتماد على وسائل غير تقليدية للبنية التحتية، مثل الشبكات الفضائية. في 24 يوليو 2025، تعرضت شبكة Starlink، التابعة لشركة سبيس إكس، لانقطاع كبير دام حوالي ساعتين ونصف تقريبًا.

تفاصيل الحادث:


بدأ الانقطاع في حوالي الساعة 15:00 بتوقيت شرق الولايات المتحدة (19:00 بتوقيت غرينتش) وانتهى بعد حوالي 2.5 ساعة، ما أدى إلى قطع الخدمة عن مستخدمين من عدة دول تعتمد على Starlink للحصول على الإنترنت.

الشركة صرّحت بأن المشكلة ناتجة عن فشل داخلي في البرمجيات في محطات الأرض التي تشكّل “عمود الأساس” في البنية التحتية للشبكة الفضائية، وليس بسبب عطل في الأقمار الصناعية نفسها. Reuters

هذه الحادثة تبيّن أن الاعتماد على الشبكات الفضائية كبديل للإنترنت الأرضي ليس مضمونًا بالكامل بدون “نسخة احتياطية قوية” أو آليات تعافي فعّالة.

مآلات وأهمية الحدث:


يوضح الحدث أن حتى شبكات الجيل الجديد مثل Starlink قد تواجه مشاكل أساسية نابعة من تحديثات برمجية داخلية أو أخطاء في البنية التحتية الأرضية.

يعكس أن الإنترنت الذي يعتمد عليه الأفراد في مناطق نائية عبر الأقمار الصناعية يظل عرضة للتقلبات مثل باقي الشبكات التقليدية، خاصة إذا لم يكن هناك تنويع أو حماية قوية من الأعطال البرمجية.

التهديدات والاستنتاجات: لماذا يجب أن نقلق؟


هذه الحوادث الثلاثة تسلط الضوء على حقيقة مقلقة: الإنترنت العالمي هش بشكل واضح، سواء من الناحية التقنية أو التنظيمية. إليك أبرز المخاطر التي تجب مراعاتها:

الاعتماد المفرط على مزودين أساسيين: كما رأينا مع Cloudflare، عدد محدود من الشركات يتحكم في نسبة ضخمة من حركة الإنترنت. أي عطل فيها قد يؤدي إلى اضطراب داخلي واسع النطاق.

أخطاء التحديثات التقنية: التحديثات الأمنية أو البرمجية مهمة، لكنها إذا لم تُختبر بدقة يمكن أن تخلق مشاكل مدمّرة، كما حدث مع CrowdStrike.

ضعف التكرار (Redundancy): الشبكات الحديثة تحتاج إلى بنية داعمة متعددة، لكن كثير من الناس يفتقرون إلى نسخ احتياطية قوية، ما يجعلهم عرضة للانقطاعات الكبيرة.

النظر إلى البنية التحتية كخدمة “سحابة” ليست كافية: حتى الشبكات الفضائية مثل Starlink ليست محصنة بالكامل من فشل داخلي، خاصة إذا لم يكن هناك نظام ليعتمد عليها في حالات الطوارئ.

الثقة الرقمية: إذا استمرت هذه الانقطاعات، ستتراجع ثقة المستخدمين والمؤسسات في البنية التحتية الرقمية، مما قد يدفع بعضهم إلى الاستثمار في حلول بديلة أو محلية، لكن ذلك يحتاج وقتًا وجهدًا كبيرًا.

ما الذي يمكن فعله؟ توصيات لتعزيز صلابة الإنترنت


لمواجهة هذه المخاطر، من الضروري اتخاذ سلسلة من الإجراءات على مستوى دولي وشركاتي:

- تنويع المزودين: تشجيع الشركات والمواقع على استخدام أكثر من مزوّد بنية تحتية (مثل CDN متعددة، أكثر من DNS) لتقليل الاعتماد على شركة واحدة فقط.

- اختبارات تحديث صارمة: مزوّدو الخدمات الأمنية والبرمجية يجب أن يُجبروا على تنفيذ اختبارات متقدمة قبل نشر أي تحديث مهم، خصوصًا التحديثات الحرجة التي تؤثر على أنظمة التشغيل أو الأمان.

- آليات استرداد أسرع: تطوير خطط استجابة للطوارئ وأدوات “استرجاع سريع” (Failover) يمكنها إعادة توجيه حركة المرور عندما يقع مزوّد أساسي في عطل.

- دعم البنية التحتية البديلة: الحكومات والمؤسسات يمكن أن تدعم تطوير الشبكات المحلية أو البدائل مثل الشبكات المجتمعية أو الأقمار الصناعية، لتوفير خيار بديل في حالات الانقطاع.

- تشجيع الشفافية: مزوّدو البنية التحتية يجب أن يلتزموا بعمليات تحقيق علنيّة (“post-mortem”) بعد الحوادث، وتقديم تقارير مفصلة عن الأسباب والإصلاحات، لبناء ثقة المستخدمين.


إن الحوادث الأخيرة التي شهدناها — من عطل Cloudflare الكبير، إلى تحديث CrowdStrike المدمّر، إلى انقطاع Starlink الفضائي — تنبهنا جميعًا إلى أن اعتمادنا على الإنترنت ليس آمنًا كما نظن.
ما نراه ليس مجرد حالات عارضَة، بل إشارات قوية إلى أن شبكة الإنترنت نفسها في حاجة ماسة إلى مراجعة استراتيجية شاملة: تنويع، تحسين قدرات التعافي، وتعزيز الاختبارات قبل التحديثات.
إذا لم نتحرك بسرعة ووعي، قد نجد أنفسنا في أزمات أكبر ليس فقط من فترات انقطاع، بل من تآكل الثقة في البنية التحتية الرقمية التي نعتبرها اليوم أمرًا مسلمًا به.

هشاشة الانترنت انهيار الانترنت سقوط فيسبوك تويتر لا يعمل الانترنت لا يعمل كلاود فلير فيسبوك تيك توك انستاجرام

تحقيقات وتقارير